أشعل سيجارته وأشعل لي سيجارتي ثم أخرج من محفظته الجلدية كتابه الجديد ليوقعه لي. لحظتها سألته لماذا خصص كتابا لرولان توبور. أجابني بعد أن احتسى جرعة من القهوة و نفث دخان السيجارة ، بفصاحة كبيرة، فمعروف عن الجاي أنه يتحدث كما يكتب: » كان لي الحظ في التعرف على رولان توبور في مطعم وبارLipp في باريس. كان توبور عبقريا وأنا كنت مفلسا. قدمه لي الكاتب البلجيكي جاك ستايربرغ الذي يقول عنه: “على خريطة السخرية، يبدأ توبور حيث ينتهي الضحك”. في الحياة، كان لتوبور ضحك مذهل، تهكمي ومرح في نفس الوقت. في أعماله، التي ترجم منها إلى العربية مسرحية “الغامض” (أحمد العطار، القاهرة، 2000)، يبدو توبور ساخرا وكريما في نفس الآن، صبيانيا إلى حد ما أحيانا وأحيانا أخرى أكثر رصانة ورشدا من أي شيخ موقر. لقد كان مبدعا بإمكانه التصريح: “لا أحب أن أكون بيدقا في لعب الآخرين.” كانت حريته الإبداعية كبيرة، خاصة وأنه كان يعبر من خلال الرسم، التشكيل، السينما، المسرح، الرواية وكتابة الأغاني. حتى بوريس فيان لم يكن له مثل هذا الطيف من وسائل التعبير. حقا، كان توبور مدهشا، مؤثرا ومفزعا.
إذا كان توبور لا يحب أن يكون بيدقا في لعب الآخرين، فماذا عن سليم الجاي إذن؟ » أنا قطعة شبحية فوق رقعة الشطرنج، لن أنفع أيا كان في لعبه «.، أجابني وهو يسحق سيجارته في المنفضة. هل ينم هذا الجواب عن التواضع أم عن التبصر أم بالأحرى عن السخرية؟ كنت أود أن أطرح عليه هذا السؤال لكنني عدلت عن ذلك لأذكره بجملة كنت قد قرأتها لم أعد أتذكر إن كان ذلك في إحدى رواياته أو في إحدى الحوارات التي أجريت معه: »أخذ الأدب كل المكان في حياتي بدون شك يوم سمعت لأول مرة أبي يرتل قصائده.« ظل صامتا للحظات، في حين بدا نظره شاردا، كما لوأنه شرع في رحلة نحو زمن بعيد. طلب مني سيجارة أخرى، تنهد ثم قال لي: »لا شيء كان يجعل هذا الرجل – الذي كانت لديه قدرة طبيعية على تدمير الذات -سعيدا إلا عذوبة لحن أبياته الشعرية. مع الأسف، كان قد صار إنسانا مدمرا عندما صدر ديوانه الشعري الوحيد. غير أن تجسيد أعماله في كتاب أعاد إليه بصيصا من الحياة، الشيء الذي جعلني أؤمن أن كتابا قد يكون مصدرا للسعادة. لذلك، فأنا أسعى جاهدا لكتابة أكبر عدد من الكتب. « يمكننا إذن أن نستنتج من كلامه هذا أن ما يحرك سليم الجاي، في العمق، هو البحث عن السعادة، ليست سعادته فحسب بل سعادة القارئ أيضا. فجل أعماله الروائية، على الأقل تلك التي قرأت، تتسم بالخفة وتعتمد أحيانا كثيرة على السخرية. وحتى كتبه النقدية، وإن كانت حادة كالمقاصل، فإنها لا تخلو من نبرة السخرية وتبدو مخترقة بمرح طفولي.
يظهر أن علاقة سليم الجاي بهذا الأب، الذي كان شاعرا في بلاط الملك، كان علاقة إشكالية، معقدة، متوترة وعصيبة. فعند قراءة الرواية التي كرسها لأبيه، “بورتريه للوالد بصفته شاعرا رسميا” ـ سليم الجاي يستعمل مفردة géniteur (والد) وليس père (أب) كما لو أنه يريد أن يحصر هذه العلاقة في جانبها البيولوجي فقط – يصعقنا عنف وقريحة الجاي اللذان لقيا ترحيبا حارا ، عند صدور الرواية سنة 1985، من قبل كتاب أمثال محمد ديب أو هنري توما.
ومع ذلك، فسليم الجاي لابد وأنه ورث عن هذا “الأب البيولوجي” تراثا ثقافيا يربطه بالعالم الأمازيغي ـ العربي ـ الإسلامي في تداخل مع الهوية الأوروبية اليهودية التي رضعها مع حليب أمه.هذا الانتماء المزدوج يسمح لي، يقول سليم الجاي، أن أقرأ بنفس المتعة محمود درويش وفرانز كافكا وربما يخول لي أن أعتبر بؤساء كل هؤلاء الذين يفضلون الكراهية على الوفاق بين الشعوب.
كاتب يقف أو يترنح بين عالمين، الغربي والعربي، لا يرى سليم الجاي أدنى فرق بينهما ” اللهم إذا استثنينا، على حد قوله ، مسألة الديمقراطية التي ليست بالمسألة الهينة. فالفوارق الطبقية وانعدام العدالة الاجتماعية تبقى سمة تطبع الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية على حد سواء.”
ما إن أنهى كلامه حتى رن هاتفه المحمول. أجاب مخاطبه ثم أخبرني أنه لن يتأخر عن أخذ الميترو في اتجاه الدائرة الثالثة عشر حيث ينتظره صديق للعشاء. كانت الساعة تشير إلى التاسعة. سنفترق في غضون بعض دقائق. أخرج سليم الجاي من محفظته، ليريني إياها ويسألني إن قرأتها، الترجمة الفرنسية لرواية “قط أبيض جميل يسير معي” للروائي المغربي يوسف فاضل، الصادرة عن دار النشر “آكت سود”. ما صعقني، قال لي، هو أن فاضل يبدو أكثر عمقا من الكتاب المغاربة بالفرنسية الذين قاربوا موضوعا قريبا من موضوع الرواية، بل مطابقا له. وأضاف: ” كثير من الكتاب المغاربة بالفرنسية يتوجهون إلى جمهور خيالي ما تزال لديه الكثير من الأفكار المسبقة الاستعمارية ويدعون في نفس الوقت أنهم يحررون نصوصهم من آثار الاستعمار في حين أنهم يكيفونها مع ما ينتظره قارئ غير صارم، يجهل هوية وتاريخ المغرب. الكتاب المغاربة بالعربية لا يمكنهم الوقوع في هذا الفخ.”
ونحن نفترق، قلت له ممازحا: ” أعلم أنك تعاني من جوع تاريخي، لكن لا تأكل أكثر من اللازم! فكر في رشاقتك!” انفجر ضحكا ثم حكي لي ما قال له صديقه الكاتب ميشيل تورنييه الذي لا حظ أنه يلتهم الطعام مثل غول: “سينتهي بك الحال سليم أن تصبح لبنانيا ضخم الجثة!” ثم استرسل قبل أن يبتلعه فم الميترو: ” وزني الحالي يرتفع إلى 75 كغ وقامتي متر وأربعة وستون ونصف سنتمتر، لكني لم أقل بعد كلمتي الأخيرة.”