عبد اللطيف بروحو ــ متخصص في المالية العامة – كود//

أثارت قرارات السلطة النقدية خلال الشهور الماضية الكثير من الجدل بخصوص مدى قدرتها على وقف الموجة التضخمية التي شهدها المغرب منذ بداية سنة 2023، أو على الأقل تخفيف حدتها، خاصة وأنها قد تسببت في انهيار جزئي واضح للقدرة الشرائية للأسر، في الوقت الذي تسارع الحكومة لاتخاذ قرارات اقتصادية ومالية وميزانياتية ذات طابع توسعي نسبيا في محاولة لامتصاص الأثر الاجتماعي والاقتصادي للتضخم.

فما يشهده المغرب خلال الوقت الراهن لن يقتصر على تضرر الفئات الهشة من ارتفاع المستوى العام للأسعار، وإنما سيتسبب بشكل حاد أيضا في معاناة الطبقة المتوسطة بشكل حاد مع التناقص التدريجي والسريع لقدرتها على مواجهة تكاليف الحياة، مما سيؤدي لتآكل قدرتها على الادخار، مع ما يعني ذلك من تسلسل الآثار الاقتصادية والمالية المرتبطة بذلك.

وإذا كانت السلطات النقدية بالمملكة قد سارعت أول الأمر لمحاولة ضبط السوق النقدية عبر رفع نسبة الفائدة لثلاث مرات متتالية، فإنها اقتنعت في نهاية المطاف بأن مواجهة هاته الموجة التضخمية الكبرىالتي يعرفها المغرب منذ عدة أشهر لم تعد ذات علاقة مباشرة بأدوات السياسة النقدية بمفهومها التقليدي، والتي لا يمكنها أن تواجه أو أن تعالج مثل هاته الموجات التضخمية ذات المخاطر العالية على الفئات الاجتماعية وعلى القطاعات الاقتصادية على حد سواء.

فرفع أسعار الفائدة لم يعد ذا معنى، ولن يكون له أي تأثير على الارتفاع العام للأسعار، بل على العكس من ذلك قد يتسبب الرفع من سعر الفائدة في نتائج سلبية على مستوى تمويل المقاولات وقروض الاستهلاك معا، في حين أن المستفيد الأساسي يكمن في الأبناك وباقي مؤسسات الائتمان، وذلك على حساب مختلف الفئات الاجتماعية وعلى القطاعات الإنتاجية.

فالأمر يتطلب بالضرورة اعتماد أو إعادة صياغة وتنزيل إجراءات ترتبط بالسياستين الاقتصادية والاجتماعية، وبرفع القدرة الشرائية عبر تدابير مرتبطة برفع دخل الأسر ورفع إنتاجية الاقتصاد الوطني، وذلك بالموازاة مع سياسات اجتماعية آنية تستهدف التخفيف من الأثر الحدي للارتفاع العام للأسعار على الطبقات الفقيرة والمتوسطة على حد سواء.

وإذا كان التضخم يمس عادة بالفئات الهشة، ويقلص من قدرتها على تأمين سلة الغذاء الضرورية لمعيشها اليومي، فإن ما يشهده المغرب -في سياقه الدولي- من غلاء أسعار المواد الأساسية يمس أيضا بقدرة الطبقة المتوسطة على تأمين احتياجاتها الأساسية.

فاستمرار هاته الموجة التضخمية ستكون له تأثيرات اقتصادية واجتماعية على حد سواء، على اعتبار أن تآكل القدرة الشرائية عادة ما يهدد الاستقرار الاجتماعي، في حين أن تناقص قدرة الاقتصاد الوطني على تأمين مقومات الامن الغذائي قد تكون له آثار طويلة المدى على قدرة الأسر على الادخار.

وبالمقابل، قد يؤدي استمرار الارتفاع العام للأسعار على المدى المتوسط لمخاطر موازية، تتعلق من جهة بانخفاض القدرة الاستهلاكية للأسر والذي يؤدي للانكماش الاقتصادي، في حين أن تآكل قدرة الطبقة المتوسطة على الادخار سيضر بشكل حاد بمستوى الادخار العام الضروري لتمويل السوق المالية.

فلم يعد الأمر يرتبط فقط بأدوات السياسة النقدية، والتي تكون ذات أهمية في حالة ارتباط التضخم بالمعروض النقدي وبتضخم الكتلة النقدية في السوق المالية، وإنما أصبح يرتبط بعدم قدرة الاقتصاد الوطني على تأمين مقومات اقتصاد الحياة (الأمن الغذائي – الأمن الطاقي)، وهو ما يفرض إعادة النظر في الخيارات التنموية الكبرى للمملكة في ظل التحديات الدولية الراهنة.

فقد أصبح هذا المسار التضخمي يهدد قدرة المغرب على الحفاظ على القدرة الشرائية لمعظم فئات المجتمع، كما يقلص بشكل حاد من هامش الادخار العمومي اللازم لتمويل القطاع الخاص. وعلى الرغم من أن المغرب لم يعرف بعد ما تشهده عدد من الدول المشابهة تضخما هيكليا، إلا أنه المستوى العام الحالي للأسعار له أبعاد اقتصادية أكثر خطورة من الأبعاد الاجتماعية، وذلك خلافا لما قد يتخيله البعض.