حميد زيد كود-

في الماضي كان المستقبل. والتي كانت ستجيء اسمها فاتن حمامة.

فلننتطرها، لنستعدّ لاستقبال هذا الاسم في القادم من القرون، ولننتظر الماضي، لنخرج لرؤيته، إنه سيأتي، ولم يكن موجودا.

كأن فاتن حمامة كانت خطأ بيننا.

كأنها ليست منا ومن هذه الأرض.

كأنها نجمة سقطت من السماء.

كأنها ملاك.

كأنها كائن غريب وسكن معنا، ثم عاد إلى أهله الذين يشبهونه.

مستحيل أن فاتن حمامة كانت موجودة، ولحد الساعة أنا لا أصدق.

كل ما في الحكاية أنا حلمنا بها، وكان صوتها يذوبنا، وكانت صورتها تخبرنا أنه من الممكن أن تكون الرقة عربية.

إنها مجرد حلم، وليست حقيقة.

والدليل على ذلك أنها كانت بالأبيض والأسود.

لستُ أسير الحنين، لكني متأكد أن قصتنا بدأت من المستقبل ونحن ذاهبون اليوم بخطى واثقة إلى الماضي.

كان الجمال في المستقبل ونحن الآن نصنع القبح.

كانت الأناقة والرقة ونحن الآن ننشر البشاعة وانعدام الذوق في كل مكان.

كانت مصر في المستقبل قبل عقود فاتنة وساحرة وشوارعها نظيفة، والآن هي عكس صورتها.

كانت عيوننا في المستقبل الذي هو الماضي شاخصة إليها ومندهشة من كل ما يأتي من مصر، والآن لا يأتي منها ومنا إلا ما يثير الرعب والقرف.

وما جعلنا ننخدع ونصدق أن فاتن حمامة كانت موجودة هو أننا شاهدناها أمس فقط، في الماضي القريب، وفي القرن العشرين، وظننا أنها منا.

هذه هي خطورة الأحلام، وأنت ترى فاتن حمامة تعتقد أنك في الواقع.

لكن كل ما رأيناه ليس حقيقيا، إنه مجرد سينما، والتي رحلت عنا، لم تكن إلا محض خيال.

لقد عشنا بالمقلوب، وشقلبنا الزمن، وبدأنا من المستقبل، ونحن اليوم نخلط الحاضر بالماضي، وفي المستقبل البعيد كانت فاتن حمامة.

ويوما بعد يوم يرحل هؤلاء الكبار الذي عاشوا في المستقبل العربي.

وكلما غادر واحد منهم، ستصيبنا نفس الدهشة، ولن نصدق أنهم عاشوا فعلا بيننا.

ولن نصدق أنهم كانوا موجودين.

منذ سنوات لم أعد أحرص على مشاهدة الأفلام المصرية، لكني عندما أسمع صوت فاتن حمامة، أتوقف وأنصت إليها، وأكتفي بالصوت.

ولو كان قادما من الراديو أستمع إليه.

أما صورتها فهي تملؤك بالخير والحب والرقة، وحتى وهي غاضبة، ترغمك على أن تقول في سرك ما أجملها من غضبة.

وهي تبكي تقول ما أجمل البكاء

وهي تحزن تصرخ ما أجمل الحزن

وهي فقيرة تقول ما أحلى الفقر وما ألذه وتحب الفقر لأن فاتن حمامة فقيرة.

وكلما اقتربت فاتن حمامة من رجل أو من كرسي أو من سيارة أو من وردة صار الرجل والكرسي والسيارة والوردة مثلها، وكانت قوية بالحنان والرقة وبالصوت العذب.

وكانت للرقة في مستقبلنا الذي مضى قوة وتأثير

وكان للجمال سطوة

وكان للخجل فتنته التي تصيب القلب في مقتل

وحين ظهرت فاتن حمامة في ذلك المستقبل البعيد وهي صغيرة كانت أجمل فتاة

وحين نضجت صارت أجمل امرأة

وحين كبرت صارت أجمل أم

وحين رحلت عنا، لم أصدق أنها كانت موجودة، وظننتني أحلم

ومن هو هذا الشخص الذي يصدق أن الماضي كان هو المستقبل

من يصدق ملاكا يتكلم المصرية

من يصدق أن للوقار فتنة

لا

لا

يوما ما ستجيء فاتن حمامة

ستجيء من المستقبل

ستجيء في الأحلام

وفي خيال الشعراء

وفي الأمنيات

ولن نصدق أنها كانت موجودة

ولن نصدق أنها رحلت عنا

إنها لم تخلق بعد

وسنظل ننتظرها

وننتظر الماضي

الذي لن يأتي.