عمر الادريسي – كود مراكش ///
حاملا لكاميرته، كما أصبح، في يوم الناس هذا، حمل الهاتف النقال موضة، يواصل الفوتوغرافي والفنان التشكيلي أحمد بن إسماعيل اقتناص ما يراه يستحق وضرورة لحفظ ذاكرة أماكن وأشخاص، سواء في مدينته مراكش أو في أي مدينة مغربية أخرى، أو في أي مكان آخر بعيد يستدعي حمل جواز السفر.
(ديانا) الحب الأول
يقول عبد الرزاق بن شعبان، مصمم العطور ومبدع حدائق ماجوريل، عن بن إسماعيل الذي وصفه بـ”عين مراكش”: “بمثابرته، فرض نفسه كمدون لسيرة المدينة، وصانع لبورتريهات أعلامها وبسطائها وزوارها، إنه يكلم الأسوار ويستخلص صمت أضرحتها وزواياها، وفضاءاتها الدينية التاريخية. ولأنه عارف جيد بروح المدينة الحمراء فقد وثق مواسمها، وجلسات السماع فيها وأماسي الملحون. منهجه الفوتوغرافي يرتكز على توازن فعلي بين مستلزمات الفن ودقة الأرشيف.. أحمد بن أسماعيل عين مراكش”.
فيما يرى الفوتوغرافي جعفر عاقيل أن بن اسماعيل، إلى جانب فوتوغرافيين من جيله، انخرط في إثارة كومة من الأسئلة من قبيل: ما معنى الكتابة الفوتوغرافية؟ وكيف يمكن للفوتوغرافي أن يكتب، بنظرته الفوتوغرافية، تفاصيل الحياة اليومية المغربية؟ ثم ما هي العدة واللغة الفوتوغرافية التي على الفوتوغرافي امتلاكها؟ وقبل ذلك أي فوتوغرافيا قادرة على تمثيل الذات المغربية؟ وما الجدوى من الفوتوغرافيا في زمننا المعاصر؟
وذهب عاقيل إلى أن “بن اسماعيل حقق ريادة وتفردا من خلال توثيقه لوجوه مغربية وأخرى أجنبية أسهمت في كتابة تاريخ الحركة الثقافية والفنية بالمغرب. فألف خزانة فوتوغرافية متنوعة شاهدة على تظاهرات إبداعية وملتقيات فكرية وعروض شعبية وخاصة وجوه مبدعين ينتمون لأزمنة تاريخية ولحقول معرفية ولفئات اجتماعية متباينة”.
يستحضر بن إسماعيل علاقته بحبه الأول الكاميرا، قائلا بلكنته المراكشية لـ”كود”: “بداية الولع بالتصوير كانت في الطفولة. كنا نحب كرة القدم وكنا كانديروا فريق ديال الكرة في حومتنا سيدي بن سليمان الجزولي المرينية. ومن بعد، فاش كانديروا الفريق كنا كانتشاركوا وكانشريو الكرة والتونيات. وكانتشاركوا في شي آلة التصوير، وشي فيلم 12 صورة بالأبيض والأسود، باش انصوروا الفريق. وكانت آلة التصوير الشهيرة في بداية السبعينات هي مصورة (ديانا) ثمنها ما كايفوت 15 درهم. وهذا العملية كنا كانديروها في الأعياد حيث تيكونوا عندنا فلوس لعواشر”. ويضيف مولاي أحمد، الذي اختار مهنة تدريس التربية الإسلامية بعد تخرجه: “غادي نبقى طيلة سنوات الدراسة في الاعدادي والثانوي كاندبر في لفلوس باش نشري (ديانا). فاش وصلت الكلية كانت عندنا المنحة 1300 درهم. أول شي درت، شريت مصورة في ذاك الوقت بـ300 درهم وبقيت هاكا كانطلع بشوي. وملي وليت أستاذ بمدينة الدار البيضاء سنة 1982. وكان معي الكاتب يوسف فاضل مؤلف فيلم (حلاق درب الفقراء)، مع المخرج الراحل سي محمد الركاب. مينن خديت مانضة رابيل، اشريت منها أول مرة مصورة احترافية بـ2200 درهم. وهاكا امشات الأمور حتى اليوم”.
إلى اليوم، ما يزال بن إسماعيل، متنقلا على دراجة هوائية أو نارية، ينتقل بين دروب وفضاءات المدينة الحمراء نهارا وليلا، حاملا معه سلاحه الأبيض لإلقاء القبض على لحظة هاربة لم تُوَثَّق بعد.
“تطمح صور مراكش في الليل، التي التقطها بن إسماعيل، إلى رؤية وحدوية تجمع بين الشاذ والفريد، وتقدم مجموعة من التفاصيل الصغيرة التي تشكل بشكل دقيق وحدة كاملة، لتصبح جاهزة لنا نافذة بعد نافذة، حائطا بعد حائط، درجا بعد درج، بابا بعد باب. مثل الشعراء والفنانين، بن إسماعيل لديه حدس بأن الاستثناءات أجزاء لا تتجزأ من مدينته المجزأة أصلا. إنه يدخلنا، بجمال خفي، إلى قلب المدينة الحمراء ورجالها السبع”، حسب الكاتب الإسباني خوان كويتيسولو، الذي ارتبط بعلاقة صداقة مع “عين مراكش”، وكان يتابع باهتمام أعماله.
سحر الألوان
غير أن الكاميرا لم تكن الشغف الوحيد لـ”الرجل الثامن في مراكش”، كما يحلو لأصدقائه الخُلص وصفه. فقد سحرته، أيضا، الألوان التي طبعت عينه في زمن الطفولة داخل حومته في سيدي بن سليمان الجزولي، مستندا في تجربته الصباغية إلى تعددية تعبيرية تميز فيها إلى حد بعيد.
وفي الدار البيضاء، حيث أنفق مرة أخرى مالا وفيرا حينها لشراء أول كاميرا محترفة، جذبه اللون الحي رغم قصر اليد: “لم تكن لدينا إمكانيات مادية لشراء الصباغة. وكان استيلو (بيك) هو الوسيلة للرسم مع الأقلام الملونة. في بداية سنوات الثمانينيات، لْقيت عند يوسف فاضل، في منزله بالدار البيضاء، واحد البلاصة كايْرسم فيها. فنقلت منو أنواع الشيتات والصباغة. ولات عندي مثل ديك البلاصة في منزلي بالبيضاء. ثم بديت استعمل صباغة بلدية بحال الزعفران وقشور الرمان”، يقول بن إسماعيل لـ”كود” وكأنه يستعيد ألوان وروائح زمن الطفل الذي كانه.
“الألوان لا تأتي إليك لأنك ترغب فيها. حتى ولو رغبت فلن تحصل عليها. الألوان تأتي لأنها كانت هنا من قبل أن يفكر فيها. إنها لا تأتي. الرسام هو الذي يسير إليها. لأنها ألوان الطفولة. وما قبل الطفولة. ألوان الأسوار والأقمشة المعلقة على دكاكين السمارين. أضرحة الأولياء وبركتهم. واللون النحاسي لذلك الهدهد الذي يتمايل فوق رأس العطار. كل الألوان التي اندثرت وبقيت عالقة في الذاكرة تنتظر من يحييها على القماش لتظهر جديدة، مبتكرة”، وفق ما جاء في شهادة الكاتب يوسف فاضل الذي جاور وصادق بن إسماعيل في المدينة الكبرى.
هكذا، وجد الفنان نفسه سعيدا، وهو يحمل عبء حب آخر، لكن دون أن يتخلى عن الأول، ودون أن يضع حدا فاصلا بين “الحُبَّين”.
“لقد ألغى مولاي أحمد كل الحدود بين التصوير الفوتوغرافي والرسم، الذي يمارسه أيضًا، لذلك فإن الصور الفوتوغرافية تشبه العديد من اللوحات، فهي تدعو العين إلى التعامل معها على هذا النحو، وقد أخذها الفنان هنا على أنها الضوء المادي المتميز وظله الليلي، واستكشاف افتراضياته التشكيلية وقدرته على الاستحضار من الاستيقاظ على ما هو غير مرئي والذي ينبثق منه”، كما يقول الكاتب الراحل إدمون عمران المليح، الذي انتبه مبكرا إلى أعمال أحمد بن إسماعيل.
عين مراكش
سواء عبر التصوير أو الصباغة، يحرص بن إسماعيل على تخليد المشترك بين الناس، أو كما يقول الشاعر والروائي حسن نجمي: “عرف سي أحمد كيف يصون ذاكرتنا المشتركة، وكيف يرعاها، وكيف يغذيها بفيض محبته… في معارضه الفنية، تشكيلا وفوتوغرافيا، كان خياره يستند إلى تعددية تعبيرية انتبه إلى قيمتها صديقنا الكبير الراحل إدمون عمران المليح، خصوصا في بعدها الثقافي والاجتماعي، وذاكرتها التاريخية والعائلية؛ اللوحة والصورة وما تحتشدان به من أفكار وعلامات وشذرات وكائنات ورموز وأشياء ووجود”.
وكتب فاضل، في شهادته التي عنونها بـ”صندوق بن اسماعيل العجيب” بمناسبة تكريم الفنان في حلف احتضنته دار الشريفة يوم 29 يناير 2025، “في رأسه ألوان وخيوط كانت تتحين الفرصة لتعبر عن نفسها. تنتظر الخشب الملائم لتضع عليه أشكالها وألوانها. وهذه الأشكال والألوان لن تعرف أبدا متى اجتمعت واكتملت. الأكيد أنها كانت في ذهن الرسام حتى قبل أن يعرف. حتى قبل أن يدرك الرسامَ الذي سيكون”.
لكن بن إسماعيل، الذي يرفض التباهي والتخايل، يحرص على أن يكون كما هو، كما كان متواضعا محبا للحياة والأصدقاء. “دائما كان للفنان الصديق أحمد بن اسماعيل الوفاء الذي يتقاسمه، والصفاء الذي يتساهمه معي ومع أصدقائه الخلص، ولكم اختلطت ثقتي به بثقتي بي، بتعبير أبي حيان التوحيدي عن الصداقة والصديق. إنه من طينة نادرة. صمته أكثر من كلامه، وكلامه يحفظ الغيب ويستر العيب. وأجمل من كلامه حرصه على الفعل الداعم، الملتحم المتضامن مع أصدقائه”، وفق ما جاء في شهادة نجمي، بينما ترى صوفيا التباع أنه من الصعب “أن نفصل ما بين الفنان والإنسان، لأنه ظل وفيا لحرفة الحياة التي يتقن بجمالية خاصة، ضاعفها بالحفر العميق الذي مارسه في اشتغاله الفني كرسام ومصور فوتوغرافي”.
رسام وفوتوغرافي يرفض أن يغرق في التفاصيل عندما يُطْلب منه الحديث عن نفسه، “خوفًا من تجاوز التواضع المطلوب”، كما قال إدمون عمران المليح في إحالة عن بن إسماعيل حين تساءل “تقول لنفسك: يمكننا أن نضاعف التفاصيل، لكننا نرغب في التراجع… خوفًا من أن يقول الناس لأنفسهم ما الفائدة من قراءة العلامات المجزأة، عندما يكون كافيًا أن نرى”، وأن نسمع أيضا، ونستمع إلى “عين مراكش”، يحكي لنا نكتة مراكشية أو يغني قصيدة من خابية الملحون.