حميد زيد – كود//

كان الكشتبان هو غمدي، وكنت أضع فيه سيفي السبابة.

كان أيضا درعا لأصبعي.

وبمجرد أن أرتديه، أدوس به على حميّر جدتي، قبل أن تتلولب، وتتحصن في خيالها، ثم أتقدم، ماعسا النحلة، رغم شوكتها.

كان الكشتبان يمنحني قوة.

وقد خضت به في طفولتي حروبا كثيرة، وبفضله حققت انتصارات لا تحصى، قاطعا به ذيل الوزغة، شاطرا دودة الأرض إلى نصفين، صانعا منها دودتين.

مبعدا به الجعل الأسود عن طريقي.

حافرا به الخنادق، والحفر، والقبور الجماعية للكائنات التي تخلصت منها.

رادا به هجمات الإبرة والدبوس.

وعندما أنتهي من معاركي، كنت أخلعه، فأرى رأس سبابتي بيضاء، ميتة، ولا روح فيها، ثم أشرع في تنظيف الكشتبان من آثار الدم، ولعاب البزاقة، وأمسح الدبق بكم قميصي، ثم آخذ إبرة، و أمررها على حفره الصغيرة، إلى أن يعود إليه لونه الفضي الجميل، لامعا، وبراقا، وبعد ذلك، أخبئه في جيبي.

كانت ثقتي في الكشتبان عمياء.

إلى أن جاء ذلك اليوم الذي وضعته في سبابتي، واثقا من نفسي، مقتربا من ماكينة الخياطة سانجر، وبعد أن جلست، و شغلتها، لم أدر إلا والإبرة تخيط إصبعي.

هكذا. تاك.تاك. تاك. تاك. تاك. و بتكات سريعة.

وأنا أصرخ.

والماكينة لا تتوقف عن طعني. وخياطة سبابتي. كأني قطعة قماش.

بينما لم يتمكن الكشتبان من توفير أي حماية لي.

ولم يمنع عني همجية آلة الخياطة.

في ذلك الوقت لم يكن ورق الكلينكس متوفرا كما اليوم.

وكان في جيب كل واحد منا نحن الصغار منديل صغير مطرز في حواشيه.

وكان ثقيلا دائما بالمخاط.

فأخرجته و لففته على إصبعي الجريحة والمصابة، وكان أخضر مخاطي بلسما لها.

وبعد فترة من التأمل، اعتبرتها استراحة محارب.

عدت من جديد إلى معاركي، معتقلا عائشة البوالة، مصدرا أوامري لها بأن تجر علبة أعواد الثقاب الشمع، متجولة بالسبع المرسوم فيها.

وكلما حرنت أضربها بالسوط.

ثم يزأر أسد علبة الثقاب الشمع، فتخب عائشة مثل مهرة.

لكن أين هو الكشتبان الآن، بعد أن كان لا يخلو منه بيت.

وأين هي ماكينة الخياطة سنجر، والتي كلما تذكرتها، يقشعر بدني، وأتألم، وأخجل من نفسي، ومن الهزيمة النكراء التي تلقيتها من الآلة، بعد انتصارات لا تحصى على الحشرات والزواحف المسالمة.

وأين الجعل

وأين قريبته عائشة.

وأين بطاريات العود الأبيض يا بابا.

وأين السالب والموجب

و أين تجاربنا في الكهرباء والميكانيكا

وأسلاك النحاس

وعلب الياغورث التي كنا نصنع بها آلات اتصال عن بعد.

وأين علب الحليب المثلثة والتي كنا نذوب السكر في زواياها ونصنع العسولية والمصاصات.

وأين الكاربون الذي كنا نصنع به القنابل.

ونفجر كاميرا سينما بوليو، فيفر خطاف الشعر من عشه، في السقف، مهاجرا إلى بلاد لا حروب فيها.

وأين الكريزيل الذي كنا نسكبه على العطن بعد فوات الأوان.

وأين زنجار النحاس الذي كنا نطهر الأواني منه.

والحرباء التي كنا نقدمها للديك كي ينقرها.

وعندما لا نجد أي شيء نلعب به

نطارد الدجاجة

ونسرق البيضة من حضن الحمامة، و الجرو من الكلبة،

وندق المسمار الأخير في الخشب، ونشتريه هنديا، كي لا يركع للمطرقة.

فيموت شامخا.

وبعد كل هذه الحياة التي كانت في الماضي،

تأتي الهواتف و تشفط الإنسان ، ولا يبقى أحد خارجها.

و يختفي اللعب

بعد أن ابتلعت المواقع الجميع.

وبعد كل هذا تأتي أيها القارىء الغر وتقول لي: هذا ليس مقالا سياسيا

فأرد

عليك

وأقول لك: هذا ليس كشتبانا

وتلك ليس ماكينة خياطة سنجر.

والقلم

أين القلم

بعد أن تركه الإصبع وصار ينقر، والسبابة عارية. والغمد بعيد. ولا من يغطيها.

ولا من يمنحها الحرية.

ولا من يطلب النجدة.