الجزء الثاني من عمود “كسر الخاطر” لعبد الحميد جماهري، رئيس تحرير “الاتحاد الاشتراكي” المنشور في الصفحة الأخيرة من عدد الثلاثاء 8 مارس 2011 عن مشاهداته خلال زيارته للجزائر.

في أزقة القصبة اللصيقة،  فاجأتنا الجرأة التي تحدث بها سليل عائلة من الشهداء، وفاجأتنا أيضا المرارة الكبيرة التي شعر بها، وهو يتذكر قوافل الشهداء، ولم نستفق إلا على صوته وهو يتمنى لنا مقاما طيبا، كإخوة مغاربة قادمين في ظروف صعبة من زمن البلاد.
 غير بعيد كان بيت المقاوم علي عمار مغلقا، وكان مرافقنا يوسف يريدنا أن نزوره، لكن لم تسعفنا الساعة في ذلك.
التقطنا صورا أمام بيت الرجل الأسطورة، والذي خلده فيلم «معركة الجزائر»، كشاب ثوري لا يخاف، توفي في ساحة الشرف وعمره 27 سنة …فقط! بيت محاطا بالأعلام الوطنية الجزائرية، وبابه الحديدي البني يشي كما لو أنه محل عادي لجمع الأثاث المستعمل!
 ولكن الحضور الكثيف للشهداء في كل ركن وفي كل منطقة، ظل يبين الضراوة التي عاشها تاريخ الفضاء العتيق بالجزائر.
ومن غريب الإحساس أن نفس الاحتقان البارد الذي يعود مع مشاهد  مفترضة لما عاشته القصبة، جزائر مزغنة حسب الاسم القديم، كما قال يوسف المرافق لنا، تعيشه بغير قليل من البرود الحديث في أزقة الجزائر العاصمة.
العاصمة جميلة للغاية، ببناياتها التي تحمل هندسة خلاسية، تجمع معالم أندلسية، تحيل على مدننا المغربية وأخرى قادمة من فن المعمار الكولونيالي، يوحدها الأبيض والشرفات الزرقاء.
بالقليل من الانشراح تخال نفسك في عاصمة شمالية مغربية.
 في الجزائر، للأسف، مظاهر التشدد الأمني مازالت قائمة، ومازالت الحواجز الأمنية في داخل العاصمة وعلى بعد كل أمتار تقف السيارات في انتظار حملات التفتيش والترقب.
 بالرغم من رفع حالة الطوارئ، لا يعتقد الجزائريون، المنظمون  منهم ومناضلون في الحركة الحقوقية، بأن الأشياء تغيرت. فمازال الشعور بأن القرار رفع وضعا قانونيا ونصيا، أما على أرض الواقع، فمازالت الأشياء كما هي، حالة حظر، عملية.
هيمنت الأوضاع في تونس وليبيا وفي مصر  على كل اللقاءات التي تمت أو تتم في الجزائر العاصمة بين الفاعلين السياسيين. وهي لقاءات تقدم الكثير من عناصر قراءة الوضع في البلد الشقيق.
بالنسبة للنخبة في الجزائر الوضع جد مركب، ومتشابك. فإذا كان الشعبان المصري والتونسي أمام رئيس يمكن إسقاطه، يقول مخاطبونا، فإن الوضع في الجزائر أكثر تعقيدا، لأن « الرئيس مجرد فيزيبل،(fusible) يمكن الاستغناء عنه كلما احترق». وهو ما يعني أن السلطة توجد حيث لا نفكر وحيث لا توجد عادة.
الأجواء لدى النخبة أيضا مفعمة بصدمات الحرب الأهلية، الحرب المدنية التي أودت بأزيد من 200 ألف قتيل وخلفت 24 ألفا من المختفين.
 كل هذه الظلال الثقيلة والراشحة بالدم مازالت تخيم على الإحساس الوطني لدى النخب الجدية والعاملة من أجل الجزائر الحرة، الديموقراطية، المغاربية.
بالنسبة لقضيتنا الأساسية شعرنا في كل حديث، سواء مع مسؤولين سياسيين أو حقوقيين أو مع مواطنين جزائريين عاديين أن «هاذي الخاوا قضية ماشي اديالنا، » قضية «ديالهم»،» وَهُمْ تعود على الحاكمين في البلاد. وحتى الإشارة بالجمع تحمل معنى في الجزائر، أي أن الحكم ليس في يد واحدة!
في الصحف الجزائرية عناوين عن القصف في ليبيا، وعن الدكتاتورية العربية التي تمتص دماء أبنائها، والحديث عن المغرب وعن «الجهود المبذولة دوليا من أجل  تذويب الجليد بين المغرب والجزائر»، وصور الملك محمد السادس والرئيس بوتفليقة جنبا إلى جنب على صدر الصفحة الاولى.
انشغال، ولا شك، يجعل الشعبين يريان أن بلادهما في استثناء معين، وإن تنوعت مظاهره وأسسه الحقيقية أو التاريخية الحديثة.
قال متحدث إلينا من نخبة الجزائر بشكل قطعي: «الصحراء ليست قضية الشعب الجزائري إطلاقا، ولن تجد جزائريا واحدا يدافع عن اختيار  المؤسسات التي تتحكم في  البلاد».
وكان ذلك كافيا لتوضيح حقيقة ما ينتظره الجزائريون.
في  الحديث عن التجربة المغربية في التغيير وفي توقع المستقبل ما يغري بالفعل  بالصمت وبالإنصات العميق.
يسألون ويتحدثون بالتعليق ، وهم ينصتون لتجربة القوى الديموقراطية في الربط بين القضية الوطنية وبين الديموقراطية باستمرار، وينصتون لتجربة هذه القوى، وأسماء رجالها الكبار بوعبيد، علي يعته، اليوسفي، اليازغي والشهيد الدائم المهدي بن بركة.
تشعر مع الإخوة التونسيين أنهم ينصتون أيضا بالرغم من الإحساس الجماعي لدينا بأنهم حققوا المعجزة في بداية الألفية الجديدة.
ينصتون ويعرفون بتفاصيل الثورة، ويروون لنا وقلوبهم ملآنة فرحا وغيرة عن الانتفاضة.
يقولون إنهم لا يحبون اسم ثورة الياسمين، لأنه تسمية غربية تريد أن ترى فينا كائنات غرائبية، ويفضلون اسم «ثورة الكرامة».
أشياء كثيرة تقال وأخرى تظل في السر  المشترك.
لكن الأشياء الرائعة كانت تنتظرنا في يوم الجمعة، في الساعة الثانية والنصف  بعد الزوال، بعد صلاة الجمعة في قاعة السلط الشهيرة في العاصمة.