كود الرباط//
لا يزال الخازن العام للمملكة، نور الدين بنسودة، يواصل سياسة التعيينات التي تثير الكثير من الجدل داخل أروقة الخزينة العامة، من خلال إسناد مناصب أعوان محاسبين لدى مراكز دبلوماسية وقنصلية حساسة إلى مقرّبين منه، بعضهم معروف بتقديم “خدمات”، وصفت من مصادر بالخزينة بـ”الخاصة” له، في ممارسات يطغى عليها منطق المحاباة و”ردّ الجميل”، بعيداً عن معايير الكفاءة والاستحقاق التي يفترض أن تؤطر هذه التعيينات.
ووفق معطيات دقيقة حصلت عليها “كود” من مصادر مطلعة، قام الخازن العام مؤخراً بتعيين قابض “قباضة الرباط حي الرياض”، وهو منصب مرموق وسط العاصمة، في مهمة جديدة كـ”عون محاسب” بالقنصلية العامة للمملكة بباريس، وأيضاً لدى البعثة الدائمة لدى منظمة اليونسكو، وذلك في خرق صريح وواضح للضوابط القانونية والتنظيمية التي تحكم تعيينات البعثات بالخارج، وفق مصادر مطلع”.
المثير في الأمر أن المذكرة المصلحية الصادرة عن مديرية الموارد البشرية تشترط مرور أربع سنوات على الأقل بين مهمتين بالخارج، بينما الموظف المذكور عاد من مهمته السابقة نهاية دجنبر 2023، في حين من المرتقب أن يلتحق بمهمته الجديدة في فاتح شتنبر 2025، أي بعد سنة وتسعة أشهر فقط، وهو ما لا يستوفي شرط المدة القانونية.
ولم يتوقف التجاوز عند هذا الحد، بل إن الموظف نفسه لم يجتز أي مباراة تؤهّله لهذا التعيين، كما لم يستوفِ شرط الأقدمية في آخر منصب مسؤولية، حيث تنص المذكرة على ضرورة التوفر على 24 شهراً من الأقدمية في المنصب إلى غاية 31 غشت 2025، بينما لم يُعيَّن كقابض إلا في فاتح يناير 2024، ما يعني أن مجموع أقدميته لا يتجاوز 20 شهراً.
كل هذه الخروقات تطرح أكثر من علامة استفهام حول دوافع هذا التعيين، خصوصاً في ظل شبهات تروج داخل أوساط الخزينة العامة تشير إلى وجود علاقة مباشرة تجمع المعني بالأمر بالخازن العام، وصلت إلى حدّ التواصل الهاتفي الشخصي، والولوج إلى مكتبه دون حواجز. وتشير المصادر ذاتها إلى أن لقاءا جمع بين هذا الشخص مؤخراً و الخازن العام، قد يكون ساهم في هذا التعيين المثير للجدل.
ما يزيد من تعقيد الملف أن هذا العون المحظوظ سبق له أن شغل نفس المنصب في نفس البعثة الدائمة لليونيسكو بباريس لأزيد من 8 سنوات خلال الإثنى عشر سنة التي قضاها بالخارج، في سابقة غير معهودة داخل الخزينة العامة، إذ لم يسبق أن تم تعيين نفس الشخص مرتين في نفس المنصب، وسط غموض كبير يلف مدة تعيينه الجديدة وشروطها.
الأدهى من ذلك أن هذا التعيين تم على حساب مرشحين آخرين استوفوا الشروط القانونية، منهم من كان معنيا بالحركة الانتقالية ومنهم من اجتاز بنجاح المباراة الخاصة بهذه الفئة، ومنح المعني بالأمر الفرصة للاختيار قبلهم. كما تم تهميش أعوان محاسبين سابقين مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، ويستوفون شروط التعيين وكانوا أكثر استحقاقًا لهذا المنصب من حيث الشروط الموضوعية والمسار المهني.
وإذا كان التبرير الرسمي لهذا التعيين هو “ضرورة المصلحة”، فإن السؤال المطروح، وفق مصادر داخل الخزينة، هو: لماذا لم تُفتح الفرصة أمام باقي المؤهلين عبر إعلان شفاف وتنظيم اختبار مهني سريع خاص بالأعوان المحاسبين السابقين، عملا بمبدأ المساواة، يتم بموجبه سنويا اختيار الأشخاص المؤهلين والذين يستوفون الشروط والراغبين في الترشح لهذا المنصب بغية تعيينهم في حالة شغور بعض المناصب على شاكلة لائحة انتظار يتم اللجوء اليها بعد تعيين الدفعة الناجحة في المباراة وليس قبلها؟ ولماذا تمر هذه التعيينات دائمًا في كواليس مغلقة ووفق منطق الانتقاء الشخصي المبني على الزبونية والمحسوبية؟
تجدر الإشارة إلى أن هذه الممارسات ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها إلى عهد مدير الموارد البشرية ونُظم المعلومات السابق، وكذا خازن البعثات القنصلية والدبلوماسية الأسبق، حيث تمّ إرساء “منهج” يُضفي الطابع الشخصي والانتقائي على عملية التعيين في مناصب يُفترض أن تُسند على أساس الاستحقاق و الكفاءة والمهنية، وكذا تمديد تعيينات أعوان محاسبين آخرين إلى أجل غير مسمى. ومع مرور الوقت، تحوّل هذا الاستثناء إلى قاعدة شبه دائمة.
وإذا استمرت هذه الوضعية، تقول نفس المصادر، فإن الخزينة العامة للمملكة تُخاطر بإعادة إنتاج سيناريو مماثل للأزمة التي عاشتها مع وزارة الداخلية في ملف تدبير جبايات الجماعات الترابية والأزمة الراهنة المتعلقة بنفقات هذه المؤسسات، مما قد يدفع وزارة الشؤون الخارجية إلى تبني خيار الإدارة المباشرة لمالية بعثاتها، كما هو معمول به في عدد من الدول كالمملكة المتحدة والدول الإسكندنافيّة.. ، حيث تُمنح البعثات استقلالية مالية وتدبيرية واسعة، تُعزز من مرونتها وكفاءتها، مثل هذا التحوّل سيضعف بلا شك من مكانة ودور الخزينة العامة، ويُعيد رسم حدود صلاحياتها، ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تهميشها ضمن المنظومة الوطنية للرقابة والتدبير المالي.