والذي يمكنه أن يسند التطرف والظلامية، هو الحنين إلى الاستبداد وترويع الدولة، من وعيها ومن فطنتها التي اكتسبتها، لا بفعل الخوف، بل بفعل القناعة الديموقراطية ومدخولها الإنساني الكبير ومردوديتها الوطنية منذ عقد من الزمن.

وفي المغرب اليوم احتكاك واضح بين معسكر الديموقراطية من جهة، وبين المكون الترويعي من جهة ثانية. وفي خضم هذا تقدم كل مكونات المجتمع قراءتها لما يقع ولما يمكنه أن يعلق بالتاريخ وبالمرحلة التي نعيش.

يمكن، من الزاوية التي سردناها، أن نسلم بالفرضية التي تقول بأن التصويت على الدستور، والإقبال الشعبي المتوقع عليه، يمكنه أن يحقق الاصطفاف والفرز الضروري، بين معسكر إصلاحي، يقوده الملك ويتجاوب معه الجزء الأكبر من الشعب، وقلة مغالية، ليست بالضرورة إصلاحية ولا ديموقراطية في تكوينها الفكري والتربوي.

ويمكن القول إن اللجوء إلى الاستفتاء كأرقى شكل ديموقراطي في الديموقراطيات الإنسانية، هو الفيصل القاسم في هذا الباب.
وهو معناه، أن الشعب قال كلمته وكفى، وأن الذين احتجوا أو رفضوا أو قاطعوا، قالوا كلمتهم أيضا…
ويمكننا أن نغامر بالقول أن الذين سيعارضون، ولهم أسماؤهم السياسية وعناوينهم المعروفة، سيتوفرون على نفس الشروط، في الإعلام والدعاية. في الدعوة إلى المقاطعة إذا ما ظلوا مقتنعين بها بعد أن تظهر النسخة النهائية للنص الدستوري.
والتسليم بهذه المعادلة هو تسليم بأن الدولة والمعسكر الديموقراطي (المعسكر .. لا العسكر ) في خندق واحد.
وهو ما يفترض أن الدولة درع للديموقراطيين وهم حلفاء أو شركاء لها.

ويمكن لمن يريد أن يأصل هذا المنبع أن يقول مع ماكس فيبر إن الدولة يمكنها أن تكون أداة لعقلنة التاريخ.
وفي هذا المنظور على الجميع أن يتشاور بخصوص الطريقة التي يمكن بها صنع نصر ديمقراطي، سالم وسلمي وسط شبكة معقدة من معطيات الواقع

يفترض أن الدولة المؤمنة بنفسها وبالديموقراطيين أن تختار أسلوبهم في معالجة كل الأشياء التي يمكنها أن تضعف المعسكر الديموقراطي، لا في نظر المتطرفين (فهم خصوم)، بل في نظر الشعب، الذي ستلتجئ إليه غدا من أجل الحسم في معركة إنتاج الحكومات والبرلمانات التي ستسير البلاد .

ويفترض أن الخطوات، يجب أن يتم التشاور حولها. وفي حالة ما لم يكن هناك تشاور، يجب أن يكون هناك على الأقل إقناع بأن هذه الإجراءات لن تكرس المتطرفين كمحاور عملي وموضوعي في الساحة قادر على خلق التوتر ورسملة المناخ الاجتماعي العام، داخليا أساسا، من أجل فرض «الشارع الواقع» أو الأمر الواقع.

إن الامر الواقع كما تنتجه السياسة، هو الذي يعطل ذلك الأمر المفترض بأن التصويت على الدستور سيطهر السياسة لوحدها.
لا نعتقد ذلك، بل نعتقد أن الحاجة إلى تدبير زمن التغيير أمر ضروري وحيوي

والزمن يقتضي، الإقرار بأن الخطاطة التي سارت عليها أمورنا، جميعا، منذ 2007 وبعد 2009 أيضا، هي خطاطة جاءت بحلول غير واقعية، وأن القدرة المفترضة في التفكير المنطقي انطلاقا من ترتيب أفقي للدولة وأعدائها والدولة وحلفائها، قد انتهى بنا إلى عتبة العجز المطلق والقطيعة الكبرى داخل المجتمع.

ما يقوي الديموقراطيين هو القرارات الديموقراطية، وليس النية المفترضة في الدفاع عنها.
وما يقوي الديموقراطيين هو شعور المغاربة بأن ما يتحرك في بلادهم لا يمكن أن يفضي إلى دوش بارد، كما حدث في ما بعد 2002، وإن بدرجة أقل..

يمكن القول إن الديموقراطيين لهم مسؤوليتهم الكبرى في التأهيل الذاتي، وهذا صحيح تماما، وأنهم مطالبون برفع مستوى القوة الذاتية إلى عتبة المرحلة. وهذا في مطلق المعقول.
لكن الزمن الذي نتحرك فيه جميعا ضيق، ولا يسع لترتيب البيوت الداخلية.

والحقيقة التي يتخوف منها كل ديموقراطي هي إعادة إنتاج نفس الرزمة من المؤسسات والأشخاص، وتعطيل التغيير السياسي المؤسساتي، وبالتالي تعطيل الحامل والسند السياسي للإصلاح الدستوري، الذي ولا شك؛ سيكون تاريخيا وثوريا.
من يملك المبادرة في الغد القريب، أي بعد أقل من أربعة أشهر؟

لا شك أننا نرى اليوم كيف تسير الجماعات والمدن الكبرى ومن يؤثثها ويسهر على تبذير (لا تدبير) شؤونها..
وهؤلاء هم الذين قد يعودون بنسبة قد تفوق التوقع غدا، إذا ما ظل جزء من شعبنا لا يلمس التغيير في الواقع السياسي.
هناك إجراءات إدارية في سلك الدولة والقضاء لابد منها، إجراءات تشعر المغاربة أن يقظتهم بعد اليوم الثاني للدستور الجديد لن تفتح عيونهم على واقع سياسي مترد ومترهل، ومحاكمات جريئة للفساد.

لأنه لا قدر الله، قد تلعب القوى المناهضة للإصلاح على كل تعثر سياسي وتسوقه على أساس أنه عجز من النظام عن محاربة الفساد والمفسدين، ويمكن أن يتجذر جزء من الرأي العام الذي يقف اليوم إلى جانب المعسكر الديموقراطي (ومنه الرأي العام الحزبي مثلا)، إذا ما أحس بأن وجوها فاسدة وسلوكات فاسدة مازالت تصنع الواقع السياسي.

وهنا الخطورة على بلادنا، وليس على أحزابها الوطنية