حميد زيد كود –
لم أجرؤ على النظر إلى مريم فخر الدين في أي فيلم.
كان جمالها بعيدا، ولا يعني الجمهور العادي، ولا يعنيني أنا بالضبط.
وكنت أكتفي دائما بالاستماع إلى غنة صوتها المميزة، غير ذلك لا شيء، وعندما تظهر في الشاشة، أنظر إليها، وأنتظر ظهور الأخريات.
أنتظر هند رستم وفاتن حمامة وشادية، اللواتي كن يسمحن لي بالنظر إليهن، والتماهي معهن، وتخيلهن، لأنه يلعبن في مخيلتي، ويظهرن قريبات، ويعشن في دنيا نعيش فيها جميعا.
إلا مريم فخر الدين لم تكن تسمح لي بذلك، ولم تكن تمنحني فرصة إبداء رأي فيها.
كانت تمثل حصة الأرستقراطية في السينما المصرية أيام الأبيض والأسود، ولذلك كانت بعيدة وتتحدث دائما بتكلف.
جمالها ليس لنا، وذوقها في اللباس ليس لنا، وحركاتها وضحكتها وحواراتها، وكل ما تفعله غير موجه لي ولا للعالم الذي أعيش فيه، ولا لاستيهامات مراهق مثلي.
لم أفكر يوما أن أقول إنها حلوة، رغم أنها كانت كذلك، وحتى البنات، لا أظن أنها كانت تغريهن، ولا واحدة منهن كانت تتمنى أن تشبهها، لأنها بعيدة ومن عالم آخر غير عالمهن.
ربما لم يكن هذا الموقف صحيحا، لكنه شكل بالنسبة لي انطباعا مازال يمنعني من النظر إلى مريم فخر الدين كما أنظر إلى باقي نجمات السينما المصرية.
لم أتخيلها يوما وهي تتشيطن أو تتغنج أو تضحك ضحكة رقيعة، وكانت دائما تضع مسافة كي لا نقترب منها، ننظر إليها ونكتفي بالنظر.
إثارتها وجمالها موجه لجمهور آخر، لا أعرفه، وربما كانت موجودة في الأفلام لإرضائه.
لم تستطع مريم فخر الدين التخلص من صورتها الأرستقراطية، ولم تتمكن من لعب أي دور يخرجها من دورها، فظلت دائما محترمة وثرية ومثقفة ومفرطة في الجمال وتتحدث من أرنبة أنفها، وتنظر إلي من فوق.
وحتى وهي تقبل عبد الحليم حافظ كانت تفعل ذلك مضطرة، نازلة من عليائها، وممثلة دورها بتصنع، يدل أنه غير واقعي ومستحيل، وليس حبا بل مجرد تمثيل في تمثيل.
لا أذكر أنها لبست الجلابية المصرية في فيلم، ولا أذكر أنها مثلت دور مصرية شعبية أو فلاحة، ولو فعلت ذلك فلن أصدقها، بينما كان وجودها ضروريا في مصر لم تعد موجودة الآن، وكان إغراؤها نخبويا، وجمالها ونظرتها موجهين، لجمهور كان موجودا في ذلك الوقت.
ولم تكن ممثلة قديرة كما يكتب الآن في الإعلام، بل كانت تستظهر أدوارها، معتمدة على جمالها المتعالي ورقتها، التي منحتها هالتها اليوم، وجعلت منها نجمة يحبها الناس، ويتذكرون من خلالها زمنا كانت فيه مصر جميلة ومتأنقة، قبل أن يسيطر الرعاع والسلفية والذوق المنحط وسعد الصغير والعنب والحنطور على الفن المصري والثقافة والسياسة المصرية.
مرة تأسف الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج لتلاشي وغياب الأرستقراطي، مع ما يحمله ذلك من غياب لقيم وأخلاق ونظرة للحياة وللفن، التي تختلف عن نظرة البورجوازي الربحية والمصلحية للحياة، ونظرة العامة لها، حيث الأرستقراطي مجاني ومسرف ومتعوي ومتعال وأنيق ومثقف، وحتى عندما يفلس يحتفظ بعاداته وينعزل ويدمن كي لا يتنازل عن نمط حياته ولا يبيع لوحاته وأثاثه، ويبقى متعاليا يملك قصره، إلى أن يفارق الحياة، دون أن يتنازل.
لقد قضى جمال عبد الناصر والثورة على روح مصر، وعلى مكون من مكوناتها، كان يصنع سحرها وجمالها وإبداعها، واليوم ماتت مريم فخر الدين، التي اكتشفنا أن والدتها مجرية، مثل كثير من المصريين في تلك الفترة، الذين كانت أصولهم مختلطة ويشكلون روح مصر وهويتها، قبل أن يظهر خطاب النقاء والأصل والتشابه، وقبل أن تصبح كلمة “يا باشا” مرتبطة بالتملق، وموجهة لأي شخص كيفما كان، وقبل أن تصبح السينما المصرية تشبه تماما وضع مصر ووضع العرب الحالي، منتصرة لما يرغب فيه السوقة والرعاع، ويحركها منتجون لا يهمهم إلا الربح، إنهم الباشوات والأفنديات الجدد، هم ونساؤهم الملطخات بالماكياج، أبناء عصر الانحطاط المحظوظون، الذين صاروا يشترون ملابسهم وعطورهم من مولات الخليج، وأصبحت دبي تؤثر على ثقافتهم وأذواقهم أكثر من باريس ولندن.
رحم الله مريم فخر الدين. كان جمالها بعيدا وأرستقراطيا، وكانت السينما صندوق أحلام، قبل أن تتفشى ثقافة البشاعة، وقبل أن ينحط العرب وينحط ذوقهم.
إنه الزمن الجميل
إنه المستقبل الذي تركناه في الماضي
مستقبلنا الذي بالأبيض والأسود
ونحن اليوم نمدح القبح والبؤس والحضيض، العنب العنب العنب، حا اركب الحنطور، وإذا ظهر الجمال، نطرده ونكفره، فالجمال دخيل علينا، وقد قمنا بالثورات، كي لا يبقى له مكان بيننا، ولن ننجح، ولن نتقدم، حتى يختفي تماما، وحتى يرحل كل من يذكرنا به، ويذكرنا بأننا كنا في الماضي مسلوبين به.
لقد أخذ الشعب الفن وانتزعه من النخبة، وها نحن نرى النتيجة ماثلة أمام أعيننا. وها نحن نتمتع: العنب، العنب، العنب.