قبل ذلك كنت صحفيا ورقيا أشتغل في الصحافة المكتوبة، وبقدرة قادر تحولت إلى شيء آخر، لا أعرفه حق المعرفة، ويقول الآن إنه أنا، ويدعي أن اسمه حميد زيد، ويحرجني بهذه الصفة الجديدة التي لزقت بي.

أدفعه ولا يذهب، لقد تقمصني بالكامل، وصار يكتب بتوقيعي، ويقترف فظاعات لا حصر لها، لم أكن لأرتكبها لو بقيت صحفيا ورقيا.
قلت مع نفسي لا بأس، ولا عيب أبدا في أن أمسخ، ما دامت الحلول معدومة، والدولة طردتنا من الصحافة المكتوبة، وأغلقت الجرائد، ودجنت الباقي، مع قلة ناجية، وعلي أن أقبل صفتي الجديدة، وأتعود عليها، وحين أنظر في المرآة علي أن أقول كم أنا جميل هكذا، وأقنع بمصيري.
لكني وأنا أكتب أشعر بأن شخصا آخر في رأسي، وأن أحدا غيري يتدخل في شؤوني الخاصة، وأقولها صراحة أنا لم أتعود بعد، وأخاف من صفتي الجديدة مازلت، وأشعر بخطر يداهمني وأنا صحفي إلكتروني، مجرد تماس كهربائي يمكنه أن يحرقني، وقد يصعد مني دخان وأتفحم وأموت، فليس من السهل أبدا أن تكون إلكترونيا، الأمر يحتاج إلى موهبة وقدرة خارقة ومعرفة واسعة بعالم الأسلاك الكهربائية والشبكات والصبيب العالي والمنخفض، وأي خطأ أو سوء تقدير من طرفي يمكنه أن يكلفني غاليا.

قبل ذلك كنت أعيش في الأوراق، وعندما كان يغضب مني القراء يشتمونني في المقاهي والبارات، أو يكرمشون الجريدة التي أكتب فيها ويرمونها في أقرب قمامة، أو يمسحون بوجهي زجاج نوافذهم، إن لم يفعلوا أكثر من ذلك، أو لا يبالون بي وترهاتي ويريحون أنفسهم ويريحونني أنا أيضا، أما اليوم وإذا لم أنل رضا قارىء مفترض، فمن السهل عليه جدا أن يعلقني في جدار الفيسبوك، ويوجه دعوة كريمة إلى أصدقائه كي يشاركوه الانتقام مني، كما أصبح من السهل جدا على القراء سحلي في شوارع الأنترنت والطواف بي في العلب الإلكترونية والمدونات والمواقع المحترمة وغير المحترمة، لمجرد اختلاف في الرأي أو استفزاز صدر مني في حقهم.
أقول هذا وليس لي حل بعد أن مسخت ولم أعد صحفيا على الورق، ولذلك عزمت على مواصلة اللعبة إلى آخرها وأن أقبل وضعي الجديد ولا أتأفف، وأدعي مثل زملائي  أن الأنترنت هو مستقبل الصحافة وأن أيام الصحافة المكتوبة صارت معدودة، وستزول بمجرد مغادرتنا للأوراق والبوكلاج والمطابع وانتقالنا إلى عالم الشاشات وصحافة المواطن، وغيرها من الأكاذيب الذي يعمل مسخي الإلكتروني على تصديقها، ويرددها بفخر دون أن يرف له جفن، رغم أنه يعرف أنها ليست صادقة تماما، وفيها كثير من المغالطات والالتفاف على الواقع.

لا ضير إذن أن أصدق ذلك وأتقدم إلى الأمام، وأنا أرى المواقع الصحفية تتكاثر مثل الفطر، لكنه فطر إلكتروني هو الآخر، وفيه أنواع  لذيذة وصالحة للأكل، وأخرى قاتلة  وسامة بسبب قوة الكهرباء الكامنة فيها، ولا مشكلة أن أنمو بدوري وأكبر في هذه الصحافة التي يشتعل فيها الضوء، وأحتل مكانا مع الآخرين، وأترك للقراء النبهاء عمل التمييز بين السام والصالح للالتهام.

وخلال تجربة مسخي القصيرة، الذي صار رغما عني أناي السابق، وأصبح يكتب بدلي، اكتشف الكائن الجديد الذي سكنني كم أن الدولة غبية حين دفعت شعبا من الصحفيين إلى اللجوء مضطرين إلى الأنترنت، وطردتهم من الورق، فقد لاحظ مسخي الإلكتروني أنه تحول هو وزملاؤه إلى عصابة صعدت الجبل، وشرعت تقود مقاومتها الصحفية الباسلة من قمة الأنترنت في اتجاه العالم الواقعي الذي يوجد في السفح  وبه شوارع حقيقية ووزارات حقيقية وملك حقيقي وجرائد يشتري أصحابها الورق ويدفعون أموالا للمطبعة ويحصلون على أرباح أو خسائر، حسب الحالات.

وبدت لمسخي المواقع الزميلة مثل شخص تسلق شجرة عالية وشرع يقذف الدولة بالحجر، لأنها قصيرة القامة في الأنترنت ولا تستطيع بلوغه أو منعه، بعد أن كانت لها اليد الطولى حين كنا ورقيين، ونذهب إلى المطابع، فتمد يدها وتطرد من تطرد، وتسجن من تسجن، وترمي من ترمي إلى البطالة.
والذي يرمي بالحجر يتصرف بدون مسؤولية، لأن الدولة بغبائها المنقطع النظير أرغمته على ذلك، وحررته من خوف المحاسبة، ومن أخلاقيات المهنة، لأن سلاح الضعيف هو أن يقذف بالحجر، ويهرب بجلده إلى الشبكة، التي لا يمكن التصدي لها، أو حبسها، حيث تجري الأخبار بسرعة، وحين يداهمه الخطر يلجأ إلى عناوين جديدة ومضيفين جدد، لا يهمهم صدق الأخبار من كذبها.

طرق مسخي دماغي وسألني عن الطريقة التي يمكن بها للدولة أن تصعد للأنترنت، وكيف يمكنها أن تقضي على المارقين منا، ولما لم أجبه قال لي إنه لو جربت أن تصعد إلى الأنترنت لتقضي على كل هؤلاء الصحفيين، فإن المغرب سيصبح مثل ليبيا تماما، وسنلعب معها لعبة الاستخفاء والظهور، إلى أن يصير منظرها مضحكا وفاقدة للهيبة ولجدية السلطة، ولن يكون بإمكانها أبدا أن تمنع وتغلق  كما فعلت في السابق، لأن حرب الأنترنت غير مضمونة العواقب و ينتصر فيها غالبا الضعفاء ومنزوعو السلاح.

ومع الوقت بدأت أتماهى مع مسخي، وأسمح له بأن يجرني إليه، وأعطيه رأسي، وأتحول إلى صحفي إلكتروني ثوري ومغامر، وأصدقه، وأقول له يا مسخي المحترم أنت على حق، لا دولة في العالم أرغمت جحافل من الصحفيين على الصعود إلى جبل الأنترنت مثلما هو واقع اليوم في المغرب، وعلى خوض حربهم في أدغال الشبكة المتشعبة، بعيدا عن أعين المراقبة، يجربون كل الأسلحة والمقالات ويستسهلون ما كان عصيا مجرد التفكير فيه، فما بالك بكتابته.

مسخي أقنعني أن خوف الدولة من الإعلام والانفتاح جعلها أمام فوضى عارمة، وقريبا سيرحل كل مواطنيها إلى الشبكة، لتعيش وحدها مع أصحاب النظرية الأمنية ومروجي حكمة تكميم الأفواه والضغط المالي، وأن الجرائد التي مازلت تطبع على الورق ستلتحق بنا، إن لم تتدارك السلطة أخطاءها وتعتذر  قبل فوات الأوان.

مسخي سعيد جدا بلعبته الجديدة، يكتب مقالا وينتقل إلى مشاهدة فيديو، يدخل إلى الفيسبوك وقبل أن يمل يغادره في اتجاه دردشة مع شخص لا يعرفه، وأنا خاضع له أتبعه أين ذهب، وأجهد كي أخرج منه، لأعود إلى نفسي، لكنه يطوقني بالإغراءات والصور، وبسرعة النشر الإلكتروني، وأتفهمه، ثم أغضب، وأبحث عن نفسي فلا أجدها، وخيوط الشبكة تلتف حولي، ولا أستطيع الفكاك، ثم استرجع ذاتي وأتذكر أني انمسخت، وأحاول أن أهرب، لكن دون جدوى، ثم أطفئ جهاز الحاسوب، وأفرك عيني، وأرى نفسي في المرآة هل مازلت كما أنا، وأذهب إلى سريري متعبا، وأشتم الدولة في سري، وأنا أحلم بمسخي يجرني كي أبحر في الصباح من جديد في شبكة مليئة بالعناكب، متقمصا صورتي واسمي، بارعا في التهكم علي وتدويخي، ورافضا أن يعيد إلي هويتي التي سرقها مني عنوة.