التنصيص الدستوري لتوصيات الهيئة، التي اشتغلت على ذاكرة الماضي الأليم وعلى جراح سنوات الرصاص والتسلط، لا يرسم قانونيا فقط هذه التوصيات وخلاصاتها، بقدر ما يعمل، أيضا، على التكريس العملي والأخلاقي لها في الحياة العامة.
وهو ما يعني الاستمرار على نفس المنطق الجريء الذي كان وراء تشكيل الهيئة والقطع مع الصمت الذي كان يدار به الرعب الذي مورس على المعارضين وعلى المجال وعلى قطاعات واسعة من المغاربة.
فقد شكل إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة، في وقته، حدثا حقوقيا وسياسيا بارزا، وتصالح المغاربة من خلاله مع ماضيهم، وأصبحت الذاكرة المشتركة للمغاربة، من خلال قراءة شجاعة للماضي ممكنة، بل قائمة في الحقيقة من خلال جلسات الإنصات ومن خلال ما تم من أجل جبر الضرر، ثم رفع الحرج السياسي والأخلاقي الذي كانت الدولة تعانيه في الحديث عن فظاعاتها القاتلة.
هي تجربة مرة وقوية، بينت أن الكشف العام والتشخيص الذي سمح به محمد السادس للفترة التي سبقت عهده، أمر ممكن، وقابل للتحقق ومرغوب فيه من أجل تطهير عام من الأشباح التي تسكن السياسة، بعد أن تكون قد سكنت أذهان الناس وذاكراتهم.
كما أن حفريات الاختفاء التي عملت بما تستطيع الذاكرة وحدود الواقع، كانت عمليا مقابلا موضوعيا لتحدي المسؤولية والإقرار بما وقع، وكشفت أيضا أن المغاربة قادرون على قراءة الماضي وويلاته بدون السقوط في الشيطنة والمطاردة التي لا تنتج إلا صور العنف الذي يثأر لنفسه.
وكان الاختيار القاضي بالبحث في العدالة الانتقالية كمطلب وكأسلوب في العلاج، اختيارا صائبا هيأ بالفعل الإطار الحي والحيوي لكي تخلص الهيئة إلى توصيات عميقة للغاية.
ومن بين توصياتها، ما يهم القضاء واستقلاليته وإعطاءه البعد الحقيقي في مراقبة الهيئات والفضاءات الأخرى بدون مناولة سياسية تفرض عليه السكوت على الفساد والعقاب الجماعي للمعارضين، وتجعله الحكم في كل حالات الظلم الاجتماعي والسياسي والإداري، وذلك بالإستناد إلى الحقوق الإنسانية كما هو متعارف عليها كونيا. وهو منعطف كبير وقفزة نوعية كبيرة.
القرار الأمني بدوره مطروح كتوصية ومتابعة القرارات ومساراته والتنصيص على عدم الإفلات من العقاب، أمر لا يمكن أن تقوم دولة الحق والقانون بدونه. وتنص التوصيات أساسا على تقييم عمل الأجهزة الاستخباراتية والسلطات الإدارية المكلفة بحفظ النظام أو تلك التي لها سلطة استعمال القوة العمومية …
كما تدعو التوصيات إلى منع الدستور لكل تدخل من طرف السلطة التنفيذية في تنظيم وسير السلطة القضائية. وعلى غرار تحريم الحزب الوحيد دستوريا، توصي الهيئة بتحريم الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والإبادة والجرائم الأخرى ضد الإنسانية، والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المخلة بالكرامة أو المهينة..
إننا في حالة لا يكون فيها القرار السياسي والقرار الأمني منفصلين أو منفصمين، بل في دولة قائمة على فصل السلط حقيقة لا شعارا.
وما من شك، فإن التوصيات الخاصة بالهيئة ليست بالشيء الهين من زاوية قراءة تاريخنا ومصادر الانتهاكات التي عرفتها بلادنا.
إن الشعار البسيط، حتى لا يتكرر هذا، يتطلب قرارات صعبة ودقيقة وقوية، لكي يصبح واقعا، وترتقي بلادنا، بلا رجعة، إلى رتبة الدولة الديموقراطية الكاملة السيادة الحقوقية.