ويزيد العالم المحيط بنا من الرفع من وتيرتها ومن ملحاحيتها.

وإذا كان السقف الإصلاحي اليوم يرتفع ويستعجل أصحاب القرار، بكل أطيافه في بلادنا، فقد أصبح لزاما أن نطرح الأسئلة التي تؤرق المغاربة اليوم.
ما هو محتوى الإصلاح؟

لقد تقدمت عدة قوى بتأويل الإصلاح ومضمونه على ضوء أن المطلوب اليوم، أو أقصى ما هو مطلوب اليوم، هو «هضم» الإصلاحات السابقة واستنفاد المحتويات الدستورية الحالية. وبذلك تكون النزعة الإصلاحية بسقف جد منخفض، وتعتبر أن الراهن لا ينقصه سوى الجودة. وهناك أطروحة ترى بأن سقف الإصلاح اليوم هو الجهوية!

والجهوية فقط، لاعتبارات عديدة، مع العلم أن الجهوية الموسعة والمقترحة تميل في هذه المقاربة إلى أن تكون وظيفية ومحدودة الهوية سياسيا.
أطروحة ثانية ترى أن سقف الإصلاح هو السياسة وفضاءات العمل السياسي.

وهي عادة ما تسير إلى القول بأن المهم هو إصلاح أدوات الإصلاح، أي الأحزاب وإصلاح القوانين في حدود معينة، وتقليص دائرة التحزيب، بقطبية أضحت ضرورية.

وبذلك لا يكون الجوهر الدستوري للسلطة والرفع من القوة المؤسساتية لمكونات الفضاء العمومي والسياسي في بلادنا هو العمق.
اليوم أصبح علينا أن نفكر في الضرورات الحقيقية لكي تنتقل بلادنا إلى مستوى أرقى، ويمكنها أن تضمن لنفسها سلاسة سياسية كما في الدول التي نجحت في انتقالها الديموقراطي.

لقد تبينت حدود النزعة التقنوقراطية عبر أربعين سنة من الركود والموت الرحيم، كما تبينت حدود العمل بازدواجية مؤسساتية أو هيكلية، واتضح بالفعل أن روح العصر تستوجب منا مسايرة العالم.

علينا أن نظل مشدودين إلى العالم الراقي، والذي نطمح أن نكون في صفوفه.

فلا يمكن أن ننزع الطابع المؤسساتي عن السياسة، ونحلم بأن تكون مؤسسات السياسة، من أحزاب وبرلمان، قوية.
هناك اليوم حاجة إلى إصلاح الأحزاب والحقل الحزبي، لكن لن يكون ذلك مجديا إذا لم يتم عبر إصلاح الدولة.
وإصلاح الدولة ليس مسألة اعتباطية الآن بقدر ما هو تحصيل حاصل إذا ما ذهبنا بما تراكم إلى أقصاه.

فلا يمكن أن نتصور حكما ذاتيا مثلا، بدون أن تغير الدولة طبيعتها وشكلها وسلطها ويغير تلقي الدولة لدى المواطنين المغاربة والنخب، كما لا يمكن أن نتصور جهوية موسعة وعميقة بدون النظر إلى توازن السلط، ولا يمكننا أن نتصور تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة بدون أن تتغير السلط ويتكرس الفصل بينها، وتعاد صياغة اتخاذ القرار.. سواء كان أمنيا أو سياسيا، ولا يمكننا أن نتصور السير على طريق المنهجية الديموقراطية بدون إعادة تلحيم القرار الانتخابي بالقرار السياسي، والذي أدى الفصل بينهما إلى الأزمة التي نعيشها منذ 2002 .

إن الإصلاح هو أيضا لقاء في أفق رحب، منه شكل تقديم السلطة لنفسها، وكل ما يحيط بهالتها.

لدينا اليوم مدونة للسلوك الديموقراطي الذي يحترم ذكاء المغاربة وتاريخهم، وعلينا أن نرتقي به إلى مصاف يتطلبها الحرص على تميز المغرب في إدارته الإقليمية والجهوية والتاريخية.

لقد تبين أن الإصلاح لا يعاني فقط من جيوب، بل هو اليوم رهينة الترابط الموجود بين شبكات الفساد وبين القرار السياسي في كل مناحيه. ولابد من أن محاكمة الفاسدين، لا بد من أن تؤدي، كما في بعض الملفات، إلى محاكمة الكثير من رجال السياسة والقرار السياسي والسلطوي.
هناك أناس نزهاء ونظيفو اليد، وأناس لا يأكلون إلا حلال الدولة وحلال المجتمع، هناك طاقات حقيقية في بلادنا تريد أن تشتغل في وضوح الحب الوطني وفي عزة الانتماء المغربي، وهؤلاء ظلوا نزهاء ونظيفي اليد حتى في أسوأ حالات البشاعة السلطوية والتردي الذي أصاب الدولة.. وهولاء موجودون في كل مراتب السلم السياسي والدولتي، وبهم يشتغل البلد، وهم يريدون جوا سياسيا نظيفا لكي يبذلوا أكثر ويرفعوا رأس بلادهم أعلى وأعلى.

وهؤلاء لا يتسابقون ولا يلهثون، بل يصنعون، فعلا، المغرب الذي نفتخر به، وهم أدرى بحقيقة الفساد السياسي والمالي والاقتصادي، وأدرى بالاختناقات..التي تصيب مسالك الدولة.

خروج المغاربة ليطرحوا في الشارع العام مطالب الإصلاح السياسي والدستوري، جاء لأنهم يشعرون بأن المداخل الأساسية معروفة وواضحة!
وعلينا أن ندرك بأن الأشياء اليوم تقاس بناء على درجة احترام مطالب الناس وكرامتهم وذكائهم