كان يمكن أن نتهيب ونشعر بالخوف ونتخيل الأسوأ، لأننا كنا نتوقع كمغاربة ما يمكن أن يحصل، وأن الأمور يمكن أن تنفلت ويقع المحظور، ومن يدعي عكس ذلك فهو إما لا يعيش معنا، أو أنه لا يعرف هذا البلد حق المعرفة.
لكن للأسف هناك أبطال في كل مكان، وهناك ثوار تمنوا أن يكون لنا ميدان تحرير ليناموا فيه، ولا يبرحوه إلا بعد تحقيق مطالبهم، وتمنوا أن يتدخل الأمن ويقمع الناس، لتتحقق شروط الثورة، وينتفض الشعب.
الآن سنسمع حديثا عن عناصر مجهولة وعن بلطجية وأعمال نهب وعن عنف وعن مثيري شغب لا أحد يعرف كيف تمكنوا من اختراق المظاهرات السلمية، وهناك من سيجتهد للبحث عن الأيادي الخفية التي أشعلت النيران في الحسيمة وفاس وصفرو والعرائش ومراكش، وشجعت على تخريب الممتلكات، وسيكون من السهل أن يتهموا الدولة، وأن يتحدثوا عن تصفية حسابات ومحاولة تشويه لحركة 20 فبراير.
منذ البداية كان هناك احتمال قوي أن يقع ما وقع، لكنه وأمام حماسة البعض الزائدة، وأمام سلطة الشارع المخونة لكل من يبدي رأيا مختلفا، تراجعت كل المواقف والآراء التي لا ترى أبدا ضرورة ملحة لحشر الدولة في الزاوية في هذا الوقت الحرج ومواجهتها بحشود الجماهير.
لقد تحولنا في زمن قياسي إلى أخيار وأشرار، وتفشت موجة تحريض لا تؤمن إلا بالاحتجاج والعصيان المدني كوسيلة لحل المشاكل، كما ظهر في الجانب الآخر “محبو الملك” الذين قرروا الدفاع عنه بالغالي والنفيس، وخرج بعضهم في الرباط والبيضاء، حاملين الصور والأعلام المغربية، لكن لا أحد قال إنه يمكن ألا نكون مع أي طرف من هؤلاء، وأن هناك ألوان أخرى كثيرة بين الأبيض والأسود، وبين الخير المطلق والشر المطلق، إنها هذه المانوية التي تضرب قيم الديمقراطية في الصميم، وتجري خلف التنميطات الجاهزة وتلهث كي تلتحق بما يحصل من حوالينا، دون تفكير في العواقب، أو تعمل على تكريس قيم من المخجل أن يبقى لها وجود في هذا الزمن.
الذين قالوا إنهم يدافعون عن الملك وتباروا على من يحبه أكثر، هم أيضا جزء من هذه الثنائية الخطيرة التي تفرض نفسها بقوة، وتحول البلد إلى فساط حق وفسطاط باطل، وتقسم الناس إلى وطنيين وخونة، وتشجع على أخلاق التبعية والخضوع الأعمى وتقديس الفرد، بينما لم نسمع إلا قلة خفتت أصواتها وسط كل هذا الزعيق، عبروا عن خشيتهم من الفوضى، ومن الانزلاق خلف موجة عنف لا أحد يمكنه أن يوقفها.
الذي علينا أن نحبه أكثر في مثل هذه الظروف هو المغرب، هذه الأرض التي نعيش فيها جميعا، والتي علينا أن نحميها ونحافظ عليها، أما حب الملك بهذا الشكل، فهو لا يليق بمواطن ينتمي إلى القرن الواحد والعشرين، يتعامل مع المؤسسات وليس مع الأشخاص، كما أن الحب الزائد عن الحد مشكوك فيه ولا يليق إلا بأنظمة مستبدة، تفرض الصور في الشوارع والمقاهي والمستشفيات والمدارس بالقوة، وتزرع في الناس ثقافة الخضوع وانتظار المعجزات.
أحيانا يكون الخوف فضيلة، وفي هذه الأوقات بالضبط، لا حرج أن نخاف مما يحصل، ولا حرج أن نعتبر أنفسنا استثناء في المنطقة، ولو بالكذب، علينا أن نصدق كذبتنا هذه ونربيها، إلى أن يمر الطوفان وتهدأ العاصفة، كي ننجو مما يقع حولنا، فلا ضمانة أن نكون مستفيدين من هذه الانتفاضات، ولا شيء يرغمنا على أن ننساق خلف التيار.
نعم يمكن أن نصدق أن لنا خصوصيتنا، وأن المغرب حتى في سنواته المظلمة كان يتوفر على أحزاب وتنظيمات تواجه السلطة وتعاكسها في اختياراتها، وأنها كانت تؤطر احتجاجات الشارع وتوجهها وتتحكم فيها لئلا تنفلت.
نعم يمكن بقليل من حسن النية والتفاؤل أن نقول أننا لسنا ليبيا ولا اليمن ولا البحرين ولا تونس ولا مصر، وأن الاحتقان لم يبلغ مداه، وأنه مازال بمقدورنا تجنب الانفجار، وأن الأحزاب مازال بإمكانها التدخل لإنقاذ المغاربة دولة ومواطنين، وما زال بإمكانها ملء الفراغ الذي تركته في الشارع، ومازالت قادرة على أخذ مسافة والخروج من الشرنقة التي وضعت نفسها فيها بالتبعية العمياء للنظام والحرص على عدم إزعاجه، ولا ضير أن تركب الموجة وتسرق مطالب 20 فبراير وتتبناها، أو تسترجعها بالأولى، لأنها كانت سباقة إلى طرحها، قبل أن يتم هذا التدجين المخجل وقبل أن يفرض المخزن سيطرته ويتفه الأحزاب وينزع عنها قوتها ودور السلطة المضادة الذي كانت تلعبه، ولا حل يبدو في الأفق إن لم تفعل ذلك وتسترجع الشارع الذي فقد الثقة فيها، وأصبح واقعا بين أيدي المغامرين وهواة الثورات.
هناك مسؤوليات يجب أن يتحملها الجميع، وهناك إشارات يجب أن يبعثها النظام للمغاربة، فالوقت لم يعد يسعف كثيرا، ونسبة الأدرينالين مرتفعة لدى الناس، وهم يرون في الفضائيات شعوبا تتكلم نفس اللغة تخرج إلى الشارع ضد الفساد والاستبداد.
إنه صمت رهيب تجلله هذه الجثث المتفحمة في وكالة بنكية يوم الأحد، وعلينا أن نتكلم مع بعضنا قبل أن نتحول إلى “شاو” يحللنا أنطوان صفير في القنوات الفرنسية، وقبل أن يكتب عنا عبد الباري عطوان، الذي اشتغل للعلم مع القذافي ومع الإعلام السعودي، ويقدم لنا دروسا في الحرية وكيف نكون ديمقراطيين.
نعم المغرب لا يشبه غيره، لكن علينا بالفعل أن نثبت ذلك، بأشياء ملموسة، وليس بترديد الشعارات، لأن كثيرين منا لم يعودوا يصدقون ذلك، ويجب أن تقنعنا الدولة أننا نستحق هذا الاستثناء، وأن المسألة ليست مجرد كذبة لفرط ما رددناها صرنا نؤمن بها.