الأخبار تفيد أن القضاة ينتفضون….هم الذين عادة لا ينتفضون في هذا البلد، بعكس قضاة البلدان الأخرى، و تحضرني هنا مصر قبل و خلال ثورتها، و الهزات التي أحدثها القضاة في حقلها السياسي و المجتمعي….
في بلدنا لا ينتفض القضاة عادة،حتى و إن مس عضو في هيأتهم التي يدافعون فيها عن مصالحهم، و نعني هنا قضية الأستاذ جعفر حسون،أو لنقل، و نحن نطأ حقل ألغام هذا المجال، أنهم ينتفضون بجهاز التحكم عن بعد،و الذي للأسف ضل لصيق بهذا الجهاز، عن حقيقة أو إشاعة منذ أن بدأ ما يسمى قضاءا عصريا في هذا البلد، أي منذ الاستقلال…
 
لا يعني هذا أن القضاة لا يغضبون، و إن كان الغضب من الصفات التي لا تليق بالقاضي، لأنها قد تنتج أحكاما غير عادلة،لكنهم يصرفون غضبهم عبر آليات مغلقة، بينهم في وداديتهم، و بينهم و بين السلطة السياسية في المجلس الأعلى للقضاء….
 
خرجت الغضبة الأخيرة للعلن، لأن مجال تصريف الغضب، و الحبور معا سيتم فتحه للعموم، أو لنقل لغير القضاة، و نعني هنا مشروع إعادة النظر في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء ، المطروح في مشروع الدستور الجديد…هذا الأخير ينص على إشراك شخصيات، من خلال مناصبها، في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، و نعني بها هنا رئيس مجلس النواب، و رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان و رئيس مؤسسة الوسيط،حين أن الأخيرين يعينان حاليا من طرف الملك، و مستقبلا من طرف الملك بعد استشارة المجلس الوزاري، و الأول منتخب من طرف ممثلي الأمة….
 
يحز في النفس أن يدفع القضاة بأسباب غارقة في الأنانية ، من قبيل أن مصير القضاة ، ترقيتهم و مشوارهم المهني سيرهن بجهات لا علاقة لها بالقضاء،و لا تعرف معاناتهم و لا آمالهم و طموحاتهم، في عملية فصل جسم القضاء عن محيطه المجتمعي، و لأني أرى أن ما جعل وضعية القضاة الحالية على ما هي عليه، هو أساسا انغلاقهم على ذواتهم، و عدم انفتاحهم على محيطهم الاجتماعي، في شقه التشريعي و الموازي، كي يدرك المجتمع ضآلة أجورهم، و معاناتهم و أشكال الإرهاق التي تعرفها المحاكم لغياب البنيات و قلة الموارد البشرية و غيرها…مما يعني أن وجود رئيس الهيئة التشريعة و رؤساء مؤسسات تعني بحقوق الإنسان، ستعينهم على تحسين أوضاعهم، و توفير إمكانيات الاشتغال في شروط أحسن …
 
يحز في النفس أن يتم تضليل الرأي، و مسؤول قضائي يصرح أنه لا يمكن إخراج السلطة التنفيذية من تركيبة المجلس السابق، و يعني بها رئاسة المجلس من طرف وزير العدل ، نيابة عن رئيسه الفعلي و هو الملك، و إدخال السلطة التشريعية ممثلة في رئيس مجلس النواب،مع العلم أن وجود وزير العدل في تركيبة المجلس السابقة لم يكن بصفته ممثلا للسلطة التنفيذية، في شكلها الديمقراطي المطروح حاليا في مشروع الدستور الجديد، بل في شقها المتنازع حولها ، و هي رئاستها من طرف الملك،بينما تواجد رئيس مجلس النواب، فليس بصفته رئيسا لسلطة تشريعية، بقدر ما هو ممثل للشعب الذي يستمد منه القضاة القوانين التي يصدرون باسمها الأحكام…
 
في مراجعة لتجارب الشعوب، و التي لا نريد ان نشكل استثناءا لها، لا إيجابا و لا سلبا، لأنه اتضح أن المغرب كان دائما ضحية لهذا الاستثناء المفترى عليه، نجد مجالس للقضاة ذات تراكيب جميلة و فعالة،ببلجيكا مثلا مجلس أعلى يضم شقين، المتكلمون باللغة الفرنسية و المتكلمون بالهولاندية،و داخل كل شق، هناك قضاة، و محامون و صحفيون و كتاب و ممثلي بعض المهن الحرة،لاعتبار أن القضاء هو ضمير الأمة المفروض فيه أن يتفاعل مع كل مكونات المجتمع….
 
لعلنا نطمئن أن انتفاضة القضاة في هذا البلد لن تصل لتنظيم مسيرات….و التظاهر في الشارع العام و التعرض لهراوات قوات القمع…ستضل حبيسة الصالونات…فقط الصالونات