إنه تلك الحالة التي يأخذ خلالها التاريخ شكل كرة ثلج متعاظمة، والتي يشعر فيها المتتبعون بتوال غريب لإيقاع الزمن السياسي، فيما الفاعلون يبدون مستسلمين لإرادة مارد كبير إسمه “التاريخ”.

قد يكون هذا المفهوم، بهذا التوصيف، جزء مما نعيشه منذ اندلاع الشرارة الأولى للثورة بتونس، ثم مصر، وباقي الدول العربية. ولعل هذا التسارع ما أدى بالصحافة وأهل الفكر، إلى استدعاء مقولة مفكر أمريكي آخر، ليس سوى صمويل هنتغتون، التي تحدث فيها عن “موجات الدمقرطة”.
حيث يميز هذا الأخير بين ثلاث موجات: الأولى انطلقت عام 1828، مع تأسيس ثقافة الاقتراع الانتخابي بالولايات المتحدة الأمريكية، وانحسرت في العشرية الثالثة من القرن العشرين، مع صعود الأنظمة الفاشية، الثانية هي التي همت مرحلة ما بين 1945 و1962 والمتميزة بعودة الديمقراطية إلى أوروبا الغربية. أما الموجة الثالثة فانطلقت مع سقوط الدكتاتوريات الإيبيرية في أواسط السبعينات وتقوت مع تفكك الأنظمة الاشتراكية خلال بدايات التسعينات.

إذا كانت ملامح التسارع وتشابه الحالات المتقاربة في التاريخ وفي الجغرافيا، و”أثر العدوى” التي تشبه تساقط قطع “الدومينو”، تجعل من التوصيف ممكنا، فإن الشساعة الزمنية للموجات الثلاث والمنطق السياسي العام التي حكم كل واحدة منها، يجعل في المقابل من المنطقي أكثر أن نتحدث عن حلقة جديدة من الموجة الثالثة للدمقرطة. هذه الموجة التي ظلت تطرق أبواب العرب بكل هدوء طوال أكثر من عقدين من الزمن، قبل أن تجتاح القلاع التي ظلت تدير ظهرها لروح العصر.

إن الدروس الأساسية لهذه المرحلة الحاسمة من التاريخ العربي، تتجلى في العمق في نهاية الأساطير المؤسسة للاستبداد العربي.
أول هذه الأساطير، يقترن بذلك الربط الذي طالما غازل المخيال الإستشراقي للغرب، بين الشرق وبين الاستبداد. إنه الربط الإثنوغرافي بين الانتماء الثقافي والديني والتاريخي لمجموعة من الشعوب، وبين خيار الاستبداد وغياب الديمقراطية. وهو ما دافعت عنه العديد من الأطروحات التي أقامت نوعا من “الشرطية الثقافية” في وجه كونية وإنسانية وعالمية القيم الديمقراطية.

ويبدو هنا كذلك اسم هنتغتون، حاضرا بقوة فقد سبق له أن اعتبر الموجة الثالثة للدمقرطة، موجة كاثوليكية بامتياز، كما دافع في العديد من أطروحاته على التناقض بين “قيم الإسلام” و”قيم الديمقراطية”، بناء على كون الإسلام لا يؤسس لأي تمفصل بين الجماعة الدينية والجماعة السياسية.
إن سقوط الاستثناء العربي بعناوينه الثقافية والدينية، وسقوط “الربط الإتنوغرافي” بين الشرق وبين الاستبداد، يعيد إلى الاعتبار – كما سبق للمرحوم سمير قصير أن كتب – اسم ليفي ستراوس في مقابل هنتغتون، يعيد إلى الاعتبار فكرة أن الحضارة ليست رتبة، وأنه لا وجود لسلم تراتبيات “طبيعية” و”مطلقة” بين الانتماءات الإثنية والدينية، وأن البشرية يمكن  بل يجب أن تقتسم الأساس الإنساني المشترك، ومؤكد أن الديمقراطية توجد ضمن هذا المشترك”.

ثاني هذه الأساطير، يرتبط بأولوية الإقتصادي على السياسي، أو بأولوية الاستقرار على السياسي، إن فكرة التقدم الاقتصادي كبديل عن الديمقراطية، فكرة شمولية في الأصل، وإذا كانت قد توفرت لها بعض الذرائع الإيديولوجية في بعض التطبيقات الاشتراكية البيروقراطية، فإنها في الحالات العربية لم تكن تعني سوى تغييب الشعوب عن الجرائم الاقتصادية للنخب الحاكمة ولعائلاتهم، وهو ما جعل هذه الشعوب تعيش أسوأ ما في الاشتراكية البيروقراطية، دون حتى أن يتوفر لها “أحسن” ما في هذه التجارب.

إن النجاعة ليست بديلا عن المسؤولية، كما أن الفعالية ليست بديلا عن المراقبة، وعموما فما حدث أثبت أن ما يسمى بالتقدم الاقتصادي الذي تمت التضحية بالتقدم السياسي على حسابه، لم يكن سوى وهما ساهم تواطؤ الغرب في صناعته، إذ لم تنتج هذه النماذج سوى اقتصاديات هشة منخورة بالفساد.

الأسطورة الثالثة التي طالما احتمى بها الاستبداد، تتجلى في تلك المفاضلة بين الوضع القائم (=الاستبداد) وبين الوضع الممكن (= التطرف)، وهي مفاضلة تغازل المخيال الإستشراقي الذي يرى في وضعية الاستبداد أرقى ما يمكن في الحالة العربية. وفي نفس الوقت تمنح للمصالح الاقتصادية الغربية، غطاء إيديولوجيا زائفا للتغطية على التواطؤ اللا أخلاقي مع الأنظمة السلطوية.
إن انهيار أسطورة “الاستبداد أو التطرف”، مرتبط بفرز خيار جديد: خيار المجتمع، خيار الديمقراطية الذي كسر الفزاعة التي طالما بنى بها حكام الدول الإستبدادية جزء من “الشرعية” السياسية لأنظمتهم.

رياح الدمقرطة أتت بالكامل كذلك على أسطورة “الحزب الوحيد”، انه حزب الدولة الذي يكرس الهيمنة الفكرية لإيديولوجيا تفوق الدولة على المجتمع، ويجسد آلية التعبئة من “فوق”. إن نهاية التحكم الفوقي قي الحياة السياسية يعني نهاية مرحلة عربية بكاملها هي مرحلة ما بعد الاستقلالات الوطنية، والدخول في دورة سياسية جديدة.

خامس أعمدة الأساطير المؤسسة للاستبداد العربي، تتمثل في أسطورة الاستقواء بالخارج كبديل عن شرعية الداخل، لقد اتضح اليوم أن يقظة الرأي العام الدولي المعبأ بواسطة وسائل اتصال غير قابلة للمنع والرقابة، وأن تحولات استراتيجية الفاعلين الدوليين في الحياة السياسية العالمية، جعلت التحالفات المعلنة  مع  القوى الدولية غير قادرة على استمالة  هذه القوى لمواجهة حراك الداخل ودينامية المجتمع.

إن ما وقع ويقع، تكثيف للحظة مفصلية في التاريخ الإنساني، لحظة انخراط شعوب الدول العربية في القيم الديمقراطية. وإذا كانت تداعيات هذه الدينامية ستطال العديد من البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية،فإنها على مستوى الثقافة السياسية حررت النخب العربية وشعوبها ومجتمعاتها، من “قدرية اللا تغيير”، ومن انهزامية بنيوية ظلت مهيكلة لكل ردود الفعل السياسية لقواها الديمقراطية.  ما يحدث معناه أن الشعوب العربية تعيد التقاط فكرة “التقدم” وتسترجع دورها في كتابة جزء من  تاريخ الإنسانية.
ما يحدث معناه  أن الديمقراطية  ممكن عربي.