حميد زيد كود ///
يا للذكريات الجميلة التي بعثتها فينا زيارتك للمغرب يا سيد ماكرون.
وكأننا في عصر آخر غير هذا العصر.
و كأننا في مغرب قديم غير هذا المغرب.
وكأننا في ثمانينيات القرن الماضي.
وكأننا في زمن إدريس البصري. وفي سنوات الرصاص.
حيث الحافلات متوقفة عن نقل الركاب. ومهما انتظرتها فإنها لن تمر. ولن تأخذك إلى وجهتك. لأنها أمام أبواب المدارس. تكدس التلاميذ. للوقوف في الرصيف. لاستقبالك.
آه يا ماكرون.
لقد عدت بنا إلى فترة جميلة من تاريخ المغرب.
حين كانوا يخرجوننا من حجرات الدرس و يضعوننا في الطريق لاستقبال الملك الراحل الحسن الثاني.
أو للترحيب بضيف كبير.
في عادة وتقليد كنا نظن أنهما انقرضا.
كنا آنئذ نفرح كثيرا لأن الملك خلصنا من معلمة الفرنسية.
ومن الضرب المبرح.
ومن الجلوس لساعات على طاولات خشبية.
و لم يكن أحد في ذلك الوقت يسأل عنا.
ولم يكن أحد يعترض.
ولم يكن أحد يحمل المسؤولية لمن أخرجنا من المدرسة.
ووزعنا على رصيف الدار البيضاء الطويل.
في طريق الرباط.
ولم يكن أحد يبدي خوفا.
ولم يكن أحد يقول ماذا لو لم يعد ولد صغير.
ماذا لو ضيع طريق العودة إلى البيت بعد أن يمر الملك وضيفه.
و كنا في ذلك الوقت نعطش كثيرا في الرصيف.
وكنا نجوع. فنراوغ جوعنا. بالتشعبط في الحواجز الحديدية.
وكانت الشمس فوق رؤوسنا الصغيرة.
كانت الشمس تدوخنا.
وكان الملك الراحل. في تلك الفترة. يتأخر كثيرا. في غالب الأحيان
وكنا نظن أنه يحوم فوقنا بطائرته الهيلوكبتر.
فنحييه بأكفنا وبالأعلام الصغيرة التي وزعوها علينا.
ونصيح: عااااااش الملك.
وأحيانا كنا نهرب للمخزن من الرصيف. ونذهب لنصطاد الزرمومية. ورضاعة البقر. وبوملوس. في عصيان طفولي غير معلن.
ضاربين عصفورين بحجر واحد.
ومتخلصين من الوقوف لساعات في الرصيف. ومن سجن المدرسة.
وبفضلك يا سيد ماكرون عاد إلينا ماضينا الجميل.
وعادت إلينا تلك الأيام الخوالي.
وكل تلك الذكريات بحلوها ومرها.
وعاد إلينا الحنين إلى تلك الفترة الحرجة من تاريخ المغرب.
و ما كنا نظنه مضى وانقضى نراه ماثلا أمامنا.
ونرى العهد الجديد في العهد القديم.
والثمانينيات في 2024.
ونرى من جديد المخزن يتحرك. و ويعبئ التلاميذ في المدارس. والجمعيات. وأطفال ملاعب القرب. و يحشر الجميع في الحافلات.
ونرى المغاربة قادمين من مدن أخرى لاستقبالك.
كما كان يحدث حين لم تكن حرية في المغرب.
ولم تكن حقوق.
وكان إكراه. وضغط. وخوف.
ولم يكن أحد يحتج على إخراج تلاميذ صغار ومراهقين وقذفهم في الرصيف.
وعلى طول الطريق.
وكنا نظن يا سيد ماكرون أن المغرب تغير كثيرا.
لكننا اكتشفنا معك.
أن كل شيء لا يزال كما هو.
وأنه بمقدور المخزن أن يخرج من قبعته. مثل ساحر. المغرب الذي يريد.
وتارة يقطع مع الماضي.
وطورا يقوم بعملية استعادة له. مخرجا من الحاضر كل العادات القديمة.
باعثا السبعينيات والثمانينيات.
وكل النساء الفقيرات اللواتي يتم استعمالهن في هذه المناسبات.
لأنهن يصرخن أفضل من الجميع.
كأنهن بدورهن قادمات من سنوات الجمر والرصاص.
وكل العاطلين
وكل المهن التي لا تدر دخلا لأصحابها.
وكل الوجوه الذي تبدو عليها علامات التعب.
وكل الفضوليين.
وهذا كله يدل على سعادة المخزن
وفرحه بزيارتك يا سيد ماكرون.
وكي يحتفل بك
وكي يستقبلك الاستقبال الذي يليق بك
فقد أحضر لك الماضي المغربي كله.
وكل هذه الحافلات
و كل من تراهم يلوحون لك في جنبات الطريق
وكل الصغار
وكل النساء
فهم من مغرب لم يعد موجودا
ولم يعد أحد يقبله
و قد استعنا به احتفاء بك
وبعدها مباشرة
سنعود إلى المغرب الحالي
الحر والديمقراطي
والخالي من مثل هذه السلوكات والتصرفات
المرتبطة بفترة سوداء من تاريخ المغرب
كان فيها المواطن
والتلميذ
مجرد أشخاص يملأ بهم عند الحاجة رصيف وطريق المملكة.
ولولا هذه الزيارة
ولولا هذا الدفء الذي عادت إليها العلاقات الثنائية بين المغرب وفرنسا
لما عشنا مغربا افتقدناه كثيرا
و ظنناه ولى إلى غير رجعة
قبل أن نكتشف أن سلطته مازالت قائمة
وتلاميذه وأطفاله ونساؤه ورجاله
ومدارسه
و حافلاته
وأن لا شيء تغير.
وأن كل الحقب وكل المراحل وكل العصور تتعايش في هذه البلاد.
التي تنتقل من عهد إلى آخر
كي لا تبرح مكانها.