هشام أعناجي ـ كود: مالاكا//

عندما تتجول في شوارع مدينة مالاكا الإسبانية، لن يمرّ عليك جمال زهورها دون أن تُلفت انتباهك، فتراقص ألوانها وتمتزج روائحها في رحلة سحرية تأخذك في عالم الجمال والفن.

وفي قلب هذا العالم الساحر، تبرز لوحة فنية مبدعة بلمسة مغربية فريدة، هي لوحة “حمزة ومريم”، الثنائي الذي يحمل بين طيات قصتهما دروسًا في الحب والتسامح والإبداع.

عمل حمزة يشبه أطوار المسرحية اللبنانية «ألف وردة ووردة» التي تحكي عن قصة بذرة صغيرة تريد أن تصبح وردة مثل أمها، وتقطع طريقا شاقا عبر الفصول الأربعة، تمرّ في كلّ منها بمرحلة، لتكبر وتتحوّل إلى أمّ لبذرة صغيرة تريد بدورها أن تكبر وتصبح وردة.

في 2016، وصل حمزة البالغ من العمر 34 سنة، إلى ملاكا، قادما من مدينة طنجة، رفض العمل وسط أقربائه مفضلا المغامرة بحلم كان يراود مخيلته، بدأ نشاطه التجاري في ظروف صعبة، لم تكن الانطلاقة مفروشة بالورود، لكن كانت النتيجة “وردية”.

الحلم بدأ عندما تعرف حمزة على “مريم”، تلك المرأة التي اختارت التضحية بكل شيء وافترشت معه الأرض في بدايات الحلم (كانوا ينامون على الأرض في مقر العمل)، وانطلقا معا نحو التألق وحصد الجوائز في بلاد الأندلس.

“فلوريستا د موريتو” في مدينة مالاكا الإسبانية، هي قصة لحمزة وزوجته مريم، اللذين استطاعا أن يصنعا اسمًا لامعًا في مجال تزيين الحفلات والأعراس بلمسات مغربية.

هذا الثنائي يبرز التنوع الثقافي والتسامح الديني في عملهم، حيث يعملان على تزيين حفلات لمختلف الفئات من اليهود، المسيحيين، الهندوس، اللادينيين، والمثليين.

يعكس هذا الثنائي صورة مشرقة عن مغرب التسامح والعيش المشترك، ما يجذب إليهم الكثير من الزبائن من مختلف الخلفيات الثقافية والدينية في إسبانيا. هذه القصة تعد نموذجًا للاندماج الثقافي والإبداع الفني في المهجر.

يقول حمزة الذي ورث عشق الورود من جده بطنجة، في حديثه مع “كود”: “عندما أتيت إلى إسبانيا، لم تكن الأمور سهلة، فكرت في تطوير قدراتي في مجال بيع الورود الذي كنت أتقنه، وجدت نفسي بدون عمل وبدون تكوين علمي في هذا المجال، فكرت للذهاب نحو مقاطعة بحي “تياتيموس”، طرحت فكرة إنشاء مشروع لبيع الورود على رئيسة المقاطعة… تلك بداياتي”.

البداية.. من مدرسة  escuela andaluza de arte floral

بدأ حمزة مسراه بتكوين علمي دقيق في مدرسة ” escuela andaluza de arte floral”، تحصل هناك على دبلوم جعله يتقن كيفية التعامل مع أشواك الورود وترويضها لتصبح باقة للبيع مع الإبداع في إنتاج أشكال جديدة تغري الزبناء.

باقة الورد مثل لوحة فنية، تشكيلها يحتاج لخيال لا متناهي وتفكير خارج الصندوق، بل يحتاج هذا العمل الدقيق إلى قراءة كتب وفهم تاريخ الحروب والأفراح والأحزان التي خيمت على العالم عموما وعلى إسبانيا خصوصا، لذلك يستحضر حمزة، أحيانا فن وروح الفنان الإسباني المولود بمدينة مالقا، بابلو بيكاسو، في تشكيل باقة الورود وفي تزيين الحفلات والأعراس، فهو يفضل التناسق وسط الفوضى مع الحفاظ على أصل الورد.

وتفاعلا مع ما يقوم به حمزة، نطق أحد الشعراء في قصيدة خصصها لهذا الربورتاج:

أطلق ناظريك وحدق بإمعان.. لترى الجمال ثمة في الجنان

بساط ورد اقتطع من جنة.. ما رأت مثله العين في أي مكان

من أبيض ناصع وأصفر فاقع.. وأزرق نيلي وأحمر قان

فهذا نرجس وذاك ياسمين.. وهذا فل وتلك شقائق النعمان

وذلك نسرين يسحر المقل حين تمايله.. ويأسر القلوب بجماله الفتان

وأي شيء كالورد ملهمة.. لكل عاشق وأديب وفنان

ففي مدرسة escuela andaluza de arte floral، تعلم حمزة، اللاتناسق بين الورود الذي يؤدي في آخر المطاف إلى تناسق “غامض” يثير ذوق الزبناء من خلال استخدام الألوان وإيحاءاتها.

بالنسبة للورد أكثر مبيعا في إسبانيا يوميا،  يقول حمزة الذي يملك الآن محل     “HAPPYFLORA” بملاكا: “هي البوكيس كنقولو ليه “الراموس” وكاين ديال الروسا وخيرفيرا ووليليو ومارغاريتا و”كلافيلكسو”/ ومؤخرا موضا جديدة ديال الورود من قبيل: “بوانيا واستيلفي واروتيرسيا”.

وأضاف حمزة :”اشتهرنا بطريقة العمل، على تفاصيل صغيرة في تشكيل “البوكيس” ديال الورد” وجميع أنواعه وهذا ما يهم الزبون الإسباني، ونستعين كذلك بمواقع التواصل الاجتماعي من خلال نشر محتوى حول كيفية التعامل مع الورود بالمنزل.

من طنجة.. إلى ملاكا: تنوع وقبول لجميع المعتقدات

حمزة، الذي انطلق من نقطة الصفر ليصبح أشهر بائع ورود في مدينة مالاكا والأقاليم المجاورة لها، يقول لـ”كود” أعمل في حفلات اليهود والمسيحيين بكل فروعهم واللادينين والمثليين.. أنا أشتغل مع الزبون لأنني أقدم خدمة للعموم ولا أفرق بين الزبناء بسبب أفكارهم وطقوسهم”.

بالنسبة لحمزة، الذي اختار الانتقال من طنجة إلى ملاكا، يجد أن المدينتين تتميزان بالتعايش بين الأديان والمعتقدات كيفما كان نوعها، وهو دافع إيجابي للعمل والإبداع، مضيفا: “بالنسبة للناس هنا في الأندلس وتقبل انتمائي الديني، وعندما تسألني عن رمضان أشرح لها”.

وأضاف حمزة في حديثه مع “كود”: “للي جا مرحبا به، كنخدمو عراسات المثليين واللي معندهمش دين والمسيحيين وغيرهم، وأنا ثقافتي هايدا: نخدم مع كولشي. حتى فالمغرب نخدم مع كولشي. واخا هنا كيسولوني كيفاش تتخدم مع المثليين وفالمغرب مكيانش اعتراف بهاد الفئة، بالنسبة لي مكيهمنيش لأنه كل واحد حر فثقافتو ودينو وشخصيتو وكل واحد كيحترم. إذن مادام كيحترموني تانا كنحترمهم”.

وتابع: “خدمت عراسات اليهود، والمسيحيين، والهنود، هنا خصك كل عرس وثقافتو باش تعرف طريقة خدمتو.. وأنا هادشي تعلمتو فالمغرب من خلال مشاهدتي للأفلام المكسيكية والهندية ووو.. حنا المغاربة معروفين بلي كنعرفو على جميع الثقافات وكنسمعو جميع أنواع الموسيقى لأن كل فرد في أسرنا كتلقاه عايش إما فأوربا أو آسيا او أمريكا..”.

فلسفة الورود.. من الشعر والرسم والفكر: تمرد على التقاليد الدينية

لا يمكن أن تبيع الورد دون أن تقدم باقة من الشعر للزبون، فهي تفتح له شهية خاصة من أجل البحث عن أنواع جديدة من الزهور التي يبيعها حمزة، فمثلا هنا قصيدة للشاعر الإسباني “خوليو كاساكي” كيهضر فيها على الياسمين:

Hay aroma a jazmín

El jazmín abierto vierte su aroma,

como la fuente al agua hace brotar,

suave alarido de efluvio que se asoma

desde los pétalos abiertos de su hogar…

La flor indemne que exalta su belleza

mas por perfume que por forma o color,

es de su aliento que emerge su grandeza,

y es de su boca que nace tal sabor…

En un rincón se mece distraído

engalanando a la brisa del camino

o al caminante que pasa por allí, por delante,

es que a veces muere de a poco, en cada instante,

cuando marchita alejado de su nido

en un jarrón…que apura su destino.

Julio Casati.

هذه القصيدة رفعت من شأن زهرة الياسمين، واقتربت من تفاصيل روائحها ولونها، كما صورت ولادتها وطريقة موتها في الأرصفة وفي الحدائق، كأنها بشر يتنفس ويتذوق معنى الحياة ومأساة الوفاة.

ليس غريبا أن تتميز هذه المدينة الأندلسية بالإبداع، فهي من أقدم مدن اسبانيا والعالم فقد اسسها الفينيقيون وحكمها الرومان ومن بعدهم المسلمون لمدة 800 عام. وتقع هذه المدينة التاريخية في جنوب اسبانيا على ساحل كوستا ديل سول.

وتعتبر مالاكا من أشهر الأماكن السياحية في إسبانيا بسبب غناها التاريخي والثقافي ومناخها المعتدل، كما أنها تعتبر ثاني اهم ميناء على البحر بعد مدينة برشلونة.

في هذه المدينة، تزيين الباحات وزرع النباتات وتركيب النوافير المائية كوسيلة للحفاظ على برودة المنازل.

مريم.. مغربية – إسبانية: حب وتضحية دفعا حمزة نحو التألق

هناك دائما حب يستحق التضحية، كما أن هناك تضحية تستحق حب، مقولة تختصر قصة حمزة مع ماريا منذ ولوجه إلى اسبانيا.

لم ينسى حمزة تضحيات زوجته، ويقول في هذا الصدد لـ”كود” بأن “زوجتي مريم كان بإمكانها أن تشتغل في عمل آخر، وتتوفر على إجازة في تخصص تسيير الإدارة، رغم ذلك قامت بالدراسة مجددا وحصلت على ماستر في تنظيم وتجهيز الحفلات وساهمت في تطوير مشروعي”.

يوضح حمزة أكثر عن هذه التضحيات: “كانت زوجتي كتفرش معي الكارطون فالمحل، وهكا بدينا كنا كنخدمو بنهار ونعسو بليل  فالمحل، ومن بعد فاش بديت كنصور فلوس قلبت على ستوديو للكراء وهكا تطورنا حتى كرينا بارطما”.

وتابع :”كريت أول مرة بـ450 اورو فالشهر، ومكان عندي والو لا فراش ولا أواني.. وموراها بديت كنشري شويا هكا وهكا ومفقدتش الأمل..حتى وصلنا لهاد الانجازات، وطبعا لزوجتي فضل كبير”.

الحب والتضحية، قيمتان ساهمتا في تتويج حمزة بعدة جوائز منها:  كأس أحسن مصمم الزهور عمل بجد في ملتقى يجتمع فيه مصممين الزهور من انحاء اوروبا يقام في الميريا اسمه لفبريكَ 2023 La fábrica workshop”، . ثاني جائزة: رابع احسن فنان مصمم الزهور في اسبانيا El mejor artesano florista de España 2024، ثم جائزة أحسن مقاولة امرأة شابة (زوجته) La mejor mujer empresaria juven en Málaga 2023، الجائزة الرابعة: احسن واجهة محل في حفل رأس السنة في 2020، (El mejor escaparate de Navidad 2020).، خامسا: بطاقة المشاركة في تصميم زهور حفل عرض أزياء السنوي ديور”dior ” 2022″.

تجربة الحجر الصحي في زمن كورونا..”فلوريستا د موريتو” الوحيد في السوق

في كوفيد، تحدى حمزة الجائحة وبدأ يشتغل في محله ولكن عن طريق إيصال الورود إلى الزبناء في منازلهم، رغم صعوبة الحجر الصحي المفروض.

يقول حمزة عن تجربة الحجر الصحي: “كنبدا مع 4 صباح ومكنساليش حتى لـ12 د الليل، ولكن الغريب فاليوم الرابع فالحجر الصحي جاو عندي البوليس كيسولوني علاش خدام واخا الحجر الصحي، ولقيت بلي مكاينش فالقانون ما يمنع التوصيل عن بعد، لذلك قرأت عليهم المادة 14 بخصوص الحجر الصحي، وتفهموا الامر واشتغلت. وانا الوحيد الذي اشتغلت في مالقا ويقولون عني “فلوريستا د موريتو هو لي خدام”.

وأضاف حمزة أنه: “ربحت مزيان فكورونا، لأننا تحدينا الجائحة، وكانت انطلاقة جيدة في مساري”.

أمل وتفاؤل..نقل التجربة إلى المغرب

يأمل (حمزة) أن يكون قادرًا على إحداث تغيير ثقافي مع الورود في المغرب. من خلال إنشاء مدرسة متخصصة في علم الورود، لكن في نفس الوقت يبدي تخوفه من الإقبال على هذا المشروع، رغم وجود استعداد من صديقه الإسباني مدير مدرسة  escuela andaluza de arte floral.

يقول حمزة في هذا الصدد لـ”كود”: “كنفكر ندير مدرسة فالمغرب ويكون فرع عندنا فأي مدينة، لنكون جسر تواصل ثقافي وفني وتاريخي عبر الورود، لكن هناك دائما مخاوف الفشل في السقوط، لأننا نحتاج إلى ثورة فكرية وثقافية في المغرب تصالحنا مع التاريخ والذات”.

يشار بأن إسبانيا تحتل المرتبة (13) عالميا، وتعد من بين أكبر مصدري الزهور في العالم، حيث يبلغ حجم مبيعاتها 69.6 مليون دولار، أي حوالي 64 مليون يورو.