حميد زيد – كود ///
كان الراحل جمال براوي حريصا حرصا شديدا على الصفحة الاقتصادية في الجريدة. وعلى جودتها. ومتطلبا في موادها. وفي أخبارها.
وكل من اشتغل معه كان يعرف مدى تعويله على تلك الصفحة. ومدى اهتمامه به.
لكنه مقابل ذلك كان مسرفا في حياته.
ولم يكن اقتصاديا بالمرة.
فكان يعيش حياته دون حساب. ودون تخطيط. ودون أرقام.
كان مبددا لها.
كان يعيشها دون أرباح.
كان يعيشها خارج الأسبوعية. وخارج الصفحة. الاقتصادية. وخارج عالم المال والأعمال.
وقد كان جمال معروفا لدى الجميع.
ولدى الأغنياء. ولدى رجال الأعمال. ولدى رجال السلطة.
وكان مؤثرا.
وكان صوته مسموعا.
لكنه كان يعيش معنا.
كان معنا في الليل. وفي النهار.
كان مبددا لحياته. وغير اقتصادي بالمرة.
كان لطيفا. بلكنته البدوية.
كان خارج السلطة. وخارج الربح. وخارج منطق الاستفادة.
كانت تأخذه السياسة.
وتأخذه الحياة.
كان جمال براوي أيضا ضد الأستاذية. وضد أن يكون معلما في الصحافة.
كان مع الدولة. ومع مصالحها.
لكنه كان حرا.
كان جمال براوي فردا.
و عصيا على التطويق. وعلى أن يوضع في خانة.
كان ضد أن يتحفظ. وأن يبتعد عن الحياة. وعن الناس. وعن فضاءاته. التي اعتاد عليها.
كان دائما مع أصدقائه البسطاء.
كان الراحل حكّاء بارعا. بطريقته الخاصة. والمتميزة.
كان منجم معلومات. وقصص.
كان ممتعا وهو يحكي عن الشخصيات المعروفة. وعن الوزراء. وعن رجالات السياسة.
كان ينال من خصومه السياسيين في الحزب. وخارجه.
ومرة سافرت معه إلى مدينة العيون. وكما عادته كان مسرفا في حياته. في الليل. وفي النهار. وفي كل الأوقات.
كان وقته مملوءا عن آخره. مع الناس. وفي الحديث عن السياسة.
وفي ما يشبه المعجزة وجدته في الصباح. وقد أنهى عمله. مرسلا ورقة إلى إحدى المجلات التي تصدر بفرنسا. ليختفي بعد ذلك.
لأبقى وحدي في العيون. مدة أسبوع. أبحث عن موضوع أكتبه في الصحراء.
وقد كان متاحا رغم ذلك.
كان بسيطا. ولا تعالم منه. ولا ادعاء ثقافة. ولا ادعاء مهنية. رغم كل تجربته. وكل علاقاته.
كان غير مقتصد في كل ما يقوم به.
كان يدخن بشراهة تبغا أسود رخيصا.
كانت الأولمبيك الزرقاء دائما في جيب سترته. ولا تفرغ.
كانت معه دائما ولا يخرج ليشتريها.
كانت مقترنة به.
وبعد أن ظهرت الصحافة “المستقلة”. كان مشتغلا بها في البداية.
ثم فاضحا لوهم استقلاليتها.
و لتبعيتها. و لحساباتها. و لارتباطات بعض أفرادها. رغم القرابة العائلية التى تجمعه بهم.
كان جمال براوي في شبابه تروتسكيا.
ومثل عدد من التروتسكيين. فقد صار اشتراكيا ديمقراطيا. وإصلاحيا يساريا.
واتحاديا.
منحازا إلى في مرحلة من المراحل إلى تيار داخل الحزب.
وإلى الحداثة.
وإلى الديمقراطية الاجتماعية.
قبل أن تتبدد كل هذه الشعارات. وتتفرق السبل بالمناضلين. و قبل أن تختفي الأسماء والوجوه. التي كانت بارزة في تلك الفترة.
وتختفي الأفكار.
ويختفي أولئك الذين كانوا يختلفون حولها.
وقد كنت بدوري قريبا من هذه الشعارات. و قريبا من موقف الراحل جمال براوي قبل أن أتعرف عليه.
و قريبا من كل الأسماء التي كانت تؤمن بتلك الأفكار.
كنتُ معه.
كنت مع تلك الشعارات التي تبددت.
وبعد أن اختفت الصحافة المستقلة.
و اختفت الصراعات. والأفكار. والسياسة. ظل صوت جمال براوي يأتي من الراديو.
ظل حكاء. ومحللا بارعا. في السياسة. وفي الاقتصاد.
وفيا لحزبه.
وللدولة. و لقناعاته.
وللحياة.
التي أسرف في عيشها. دون اقتصاد. ودون حساب. إلى أن غادرها هذا اليوم.
تاركا فراغا.
لن يملأه أحد غيره.