أتذكر ويتذكر من هم في سني من أواسط العمر أننا كنا نسمع ونحن صغار عن أناس يتم حملهم إلى معتقلات بعيدة, أماكن بأسماء غريبة كانت ترن في ذاكرة الطفولة بشكل غريب. كنا نسمع "قلعة مكونة" فنقارن بين موسم الورود الذي يقول لنا التلفزيون الرسمي باستمرار إنها تحتضنه وبين مانسمعه من حديث خافت للأهل عن وجود مكناسيين عديدين هناك, اعتقلهم النظام لأنهم كانوا يريدون تغييره. كنا نسمع عبارات غريبة عن بيضاويين ألقوا بهم في درب مولاي الشريف, عن جحيم يدعى الكوربيسو سقط بين يدي وأنا لازلت صغيرا في بيت شوريين من أقاربنا كتاب مصطفى العلوي صاحب "الحقيقة الضائعة" عن دار المقري", ثم تسللت يوما إلى خزانة الوالد ووجدت كتابا قديما بالفرنسية عن معتقلين سياسيين في سجون الحسن الثاني, التقطت حينها من بينهم جميعا إسم رشيد فكاك لأنه كان يقدم على القناة الثانية "دوزيم" برنامج "ديكو".
أسس رعب غريب ذاكرتنا الصغيرة تلك, ثم أثثناها بماسمعناه عن إخوانيين يتم اعتقالهم لأنهم "ينصتون لشرائط الشيخ كشك", أو لأنهم يريدون أن يفعلوا بنا مافعله الإيرانيون في مكة المكرمة مثلما كان يقول مصطفى العلوي في التلفزيون في تلك السنوات التي تبدو بعيدة الآن. سمععنا يوما مناضلا كبيرا كان الوحيد في البرلمان المغربي يسمى محمد بنسعيد آيت يدر الذي استطاع النطق بكلمة "تازمامارت" من بين طبقة سياسية واصلت التآمر حتى النهاية. في الختام وحين بلغنا الجامعة دخلها أغلبنا بأفكار مرعبة عن إمكانية تعرضه في أي لحظة من اللحظات للمرور من هذه المعتقلات والمخابئ, وإن كانت أغلبها حينها قد بدأت تعرف الطريق للحل أو التهديم.
قلة قليلة منا اعتنقت الفعل السياسي في الجامعة, وشيئا فشيئا بدأنا نفهم أن من بنوا تلك المعتقلات السرية وأصروا على أن يسربوا عنها بعض الأخبار بين الفينة والأخرى, كانوا يريدون فقط بث الرعب في قلب الأجيال القادمة لكي يتحول النضال السياسي أو النضال من أجل الوطن إلى شيء تجاوزته "الموضة", ولكي تصبح المعركة الأساسية هي معركة "التدبار على الراس", أو الحل الفردي مثلما يقول المتعلمون.
اليوم مع مايدور من أحاديث عن تمارة المعتقل السري الرهيب, نفهم أنها الرسالة ذاتها تريد توجيهها الجهات ذاته إلى الشعب ذاتهز ماتغير هي الأقنعة وأسماء المسؤولين, أما جوهر الرسالة فلازال نفسه. أن يخاف الوافدون الجدد من بلدهم, أن يعرفوا أن عين "البيغ براضر" تراقبهم, وأن يفهموا أن مسار السياسة والاهتمام بحال الوطن يمر قسرا من هناك.
لهؤلاء رسالة واحدة لابد منها: أغلقوا هذا المعتقل اليوم قبل الغد. أطلقوا سراح من تبقى فيه مت المعتقلين ظلما وعدوانا. المملكة مليئة بالمخافر العلنية وبالمحاكم التي يعد تقديم المشتبه فيهم إليها مهمتها الأصلية. قدموا من تعتبرون أنه أتى فعلا قد يضر الوطن إلى المحاكمة العادلة, وفق الضمانات المتعارف عليها في العالم المتحضر اليوم. اتركوا للأجيال القادمة أن تجرب الحياة في بلدها بشكل آخر غير الذي جربناه نحن. اتركوا للصغار الحاليين أن يكبروا فلايسمعوا أن في بلدهم معتقلات رهيبة, يتم فيها إجلاس الناس على "القراعي", أو يتم فيها اغتصاب المتزوجات أمام أعين أزواجهم لإجبارهم على الاعتراف بما فعلوه ما لم يفعلوه.
هذا النداء ليس نداء صحافة ولا سياسة ولا أي هراء من هذا القبيل. هذا النداء نداء مواطن مغربي بسيط يحلم بأن تعيش صغيرته مثلما يعيش صغار العالم المتحضر اليوم. أن لاتشغل بالها بكوابيس أكبر من عمرها فقط لأن بعض من يتولون المسؤولية في هذا البلد يريدون الحفاظ على مسؤوليتهم بأي ثمن, ولو كان الثمن تعذيب الناس, وإرهاب الناس بدعوى مكافحة الإرهاب, وترسيخ فكرة مرعبة في أذهان المغاربة جميعهم تقول إن شيئا خطيرا ما ينتظرهم في المنعطف الأول إذا مافكروا بشكل مخالف للمسموح به في البلد اليوم.
لقد عاشت أجيال كثيرة من شعبنا هذا الكابوس, وآن اليوم ميعاد القضاء على هذا الرعب وإزالته من بلدنا نهائيا. ونتصور جميعا أن الخطوة المقبلة لملك البلاد في سلسلةة إصلاحات جلالته الجريئة التي تجري حالي هي أن نسمع بأن تمارة التي كانت تعرف بحديقة حيواناتها الشهيرة, ستعود لكي تعرف بهذه الأخيرة فقط, وأن معتقل الغابة السري العلني قد مضى إلى غير رجعة من تراب هذا الوطن, ومن أذهان أبناء هذا الوطن..