هشام اعناجي//
—
من الحقائق التاريخية المذهلة في تاريخ تكوين الدولة في بلاد الاسلام والتي تحتاج منا إلى تأمل عميق في نتائجها وأسبابها، تلك الحقائق المرتبطة أساسا بفترة حكم الخلفاء الراشدين، أول هذه الحقائق كان حدث أول إغتيال سياسي للحكام في عهود بداية نشوء الدولة الاسلامية، إنه حدث إغتيال منظر العدالة الاجتماعية في الحكم الصحابي عمر بن الخطاب.
لم يكن عمر الأول والأخير الذي أغتيل على يد المتطرفين، بل ثلاثة من الحكام الراشدون قتلوا، واحد منهم على يد غلام مجوس واثنان على يد متطرفون في ظرف وجيز يقدر 32 سنة وهو ظرف زمني لا يستحق أن يكون لحظة تأسيسية للدولة ، هكذا توالت أحداث العنف السياسي في عالم وجد نفسه أمام إشكالية تكوين الدولة ( = حاول مؤخرا د عبد العلي حامي الدين وآخرون قبله معالجة هذه الإشكالية، وقد وقع اهتمامي على مؤلف جدير بالقراءة والاهتمام تحت عنوان به أكثر من دلالة من حيث أنه يعبر عن صلب الاشكال العويص الذي تعاني منه الأمة الاسلامية ” 1.(مؤلف الاسلام وتكوين الدولة العربية الحديثة، لباحث ومناضل سياسي د. عبد العلي حامي الدين).
لفهم تكوين الدولة في الاسلام لابد من النظر إلى مفاهيم أساسية تشكل جوهر الدولة.، سنرى مفهومي السيادة والوعي الدستوري في العقل الاسلامي، وكذلك النظر إلى مطلب فصل الدين عن السياسة .
السيادة في الاسلام والوعي الدستوري
تعرْف السيادة في حقل العلاقات الدولية بأنها القوة التي لا تخضع لقوة أخرى، لكن بالنسبة للإسلام السياسي الحديث،كما يقول الباحث الاسلامي عبد العلي حامي الدين ” إذا كانت السيادة لله فمعنى ذلك انتفاء إمكانية صنع البشر لتاريخهم، وبالتالي انتفاء إمكانية وجود فكر سياسي، الذي من شروطه الأساسية شرط الحرية الإنسانية” ص 16 من نفس المرجع المذكور أعلاه، فإنه تم التراجع عن الحاكمية لله خصوصا أنها ترادف معنى السيادة، في إشارة منه بتعبير ذكي إلى ضرورة فصل الدين عن السياسية او بتعبير أدق فصل السيادة الالهية التي تعني السيادة في الامور الدينية عن السيادة البشرية في أمورها الدنيوية، ويستدل حامي الدين في ما بعد كأنه يؤكد على ضرورة العلمنة رغم أنه أشار إلى رواد الأطروحة التي دعت للفصل، وكان استدلاله كالآتي ” ينبغي الشروع في عملية العلمنة باعتبارها مصدرا للحرية الفكرية، وبالنظر إليها كفضاء تنتشر فيه هذه الحرية من أجل افتتاح نظرية جديدة في ممارسة السيادة العليا والمشروعية حتى نكتسب مشروعية الحديث عن فكر سياسي أنساني نسبي، متطور ومتباين ” ابراهيم ابراش: تاريخ الفكر السياسي ص 33-34 .
وتعليقا على فترة الخلفاء وفترة الحكم النبوي، أقر الباحث الاسلامي على أن ما أبدعه المفكرون والفقهاء المسلمون في المجال السياسي في تلك الفترة هو فكر إنساني وليس جزءا من العقيدة ” لابد من الإشارة أن المجتهد والفقيه في الفترة النبوية هو الرسول ذاته وبعد مماته كان الصحابة والخلافاء والعلماء هم من يشرعون للأمة في أمورها ” ..
وفي كشفه عن تاريخ الوعي بالمسألة الدستورية وبالظروف المحيطة به وبمساهمة العلماء فيه بالعالمين العربي والاسلامي يؤكد الكاتب أن أول وعي تشكل عمليا عبر ما سمي ب”عهد الأمان” (= أول وثيقة دستورية حديثة وضعها حمد اباي بتونس) الذي أسس لمبدأ الحرية لغير المسلمين، كما وضع تونس على خطوط سكة الأوربة والتغريب والازدواجية اللغوية والثقافية والادماج في السوق الغربية، أي باختصار كما تزعم الباحثة التونسية مارزي بديرة ، على سكة التبعية دون الظفر – رغم المحاولات المتكررة – بالخروج من هاته السكة إلى يومنا هذا.
بالإضافة إلى كذلك لا بد الوقوف على استقراء لأهم الأحداث التي عاشها كبار الفقهاء في الاسلام، يتبين لنا على أن أئمة الفقه الاسلامي، كانوا أكثر من عانى من الحكم السياسي المتسربل بالدين ( = الأئمة الأربعة، قصة أبي حذيفة مع الخليفة المنصور حيث تعرض للتعذيب في السجن وكيف ضرب بالسياط حتى ورم رأسه ..وهي أمثلة كثيرة)، حيث كانت الحياة السياسية تخضع لسيطرة الأهواء (ثقافة البدو والجشع المرتبط بالقبيلة كما يذهب الدكتور علي الوردي في تحليلاته) أكثر منها لسيطرة المصالح.
فمشكلتي السيادة والدستور في الحقيقة مشكلة فهم وتأويل للنصوص الدينية خصوصا المتعلقة بالأحكام والأشكال ( أيات الأحكام، وحديث الخلافة ..)، لذلك أقر الباحث الاسلامي محمد جبرون في كتابه الأخير ” مفهوم الدولة الاسلامية وأزمة الأسس”، أنه لابد من تصحيح هذا المسار بالقول أن الدولة الاسلامية بنت على أسس ومنظومة قيم (العدل،الحرية، التعاقد = البيعة، المسؤلية، ..) وليس على أحكام ولا أشكال، فيقر بذلك أن دول الخلافة ما هي إلا تحقق زمني وتاريخي لتلك القيم كما ذهب في أحكام الحدود كذلك، ويرجع أغلبها إلى كونها كانت في زمن الجاهلية وإنما الجديد هو تهذيب الوحي لهذه الأحكام التاريخية لتحقق أهدافها في وقتها (تفاعل الوحي مع البيئة على حد تعبيره).
فصل الدين عن السياسة: حتمية تكوين الدولة
الملفت للانتباه في تطور الدولة في العالمين، الاسلامي والمسيحي، أن هذا الاخير عندما نزلت رسالة عيسى وجدت دولة قائمة واستطاعت الكنيسة أن تكون جزءا من الدولة بمعنى آخر من أوله ليست هناك دولة مسيحية بقدر ما تحولت المسيحية إلى وسيلة في يد الدولة كما فعلت الامبراطورية الرومانية في فتوحاتها وتوسعها خصوصا في شمال افريقيا، فكتب ماكيافلي عن ذلك مايلي ” الدين نافع لقيادة الجيش ومواساة الشعب في محنه، ونافع لردع المفسدين وتشجيع الأخيار”.
في حين أن العالم الاسلامي، عكس المسيحي، ظهرت فيه الدولة بعد بناء قواعد أساسية في القانون ( = الشريعة) أي في ” السلوك الديني، المدني، السياسي، التجاري و الجنائي…” أي بعد تأسيس لمنطق جديد في العلاقات الاجتماعية والأمنية والدولية. هذه القواعد بنى عليها فقهاء ” فترة الصحابة ومن بعدهم” لتأسيس لدولة تقوم على مبادئ الشريعة الاسلامية، فكانت الخلافة فتلاها الصراع على الحكم بتثبيت الحكم الملكي “الوراثي ” في طبيعته الديكتاتورية.
ولاستقراء رأي أحد المنتقدين للدولة الإسلامية، يعد فرج فودة من أبرز هؤلاء المنتقدين للإسلام السياسي، وكان له مؤلف صغير الحجم عظيم الفائدة، فكان عنوانه بمثابة تحدير للمستقبل من السقوط، ” ما قبل السقوط” هو الكتاب الذي استطاع أن يخوض تجربة نقد تاريخي لمسار تكوين الدولة في الاسلام، فمنذ فترة الخلافة ” أول تجربة سياسية لدولة اسلامية ” كشف من خلالها أسباب النهوض وأسباب السقوط، وخرج بنتائج ستة، كان أبرزها تلك التي وظفها في قول واضح “فصل الدين عن السياسة وأمور الحكم، إنما يحقق صالح الدين وصالح السياسة معا عكس ما يصوره لنا أنصار عدم الفصل بينهما “(ص 15 ما قبل السقوط).
من جانب آخر، عندما يقول المؤرخ المغربي، عبد الله العروي في مؤلفه (ثقافتنا في ضوء التاريخ) ” إن الكتاب العرب المحدثين دائما ما يجيبون على سؤال يبادر الغرب بطرحه فيحدد بذلك حدود النقاش، وبالتالي يوجه مسبقا الجواب، مثلا: الشيخ يجيب على أسئلة طرحها شيوخ الغرب أي رجال الكنيسة واستعارها لأغراض سجالية كل من آرنست رينان وهانوتو..كما أن الزعيم السياسي يردد أراء جون لوك ومونتيسكيو، وداعية التقنية مواعظ أوغست كونت وهربرت سبنسر”…
فإنه يحيل على أن العقل العربي عموما، والاسلامي خصوصا يجيب على نفس الأسئلة التي سبق الغرب في الإجابة عنها، ويعيد يكرر نفس الأعمال سواء في بناء الدولة أي يكرر ذات الأخطاء ويتجه نحو الخضوع لنفس الأجوبة العملية، أو ما سماه المثقفين ب حتمية التأورب.
لكن يبقى السؤال حول طبيعة الأسئلة التي تسيطر على العقل العربي، فما دام ” كل إنسان هو نتاج للبيئة المادية والثقافية التي ترعرع فيها بقدر ما هو نتاج للمواهب التكوينية التي ورثها عن الآباء والأجداد..” رينيه دوبو ” ص 45 كتاب انسانية الانسان .. نقد علمي للحضارة الغربية” ، فإن يصعب حاليا الحديث عن أهمية بناء الدولة عند العقل العربي، فالتخلف جعل منهم التفكير في سبل الاستيقاظ وإعادة الإستيقاظ بدل سبل البناء خصوصا بعد فشل المشاريع النهضوية من السلفية إلى القومية إلى الاشتراكية العسكرية ولنا في مصر والجزائر خير مثال، وحتى المشايع الاسلامية (الحركية منها خصوصا : الاخوان المسلمون بمصر وسوريا، النهضة بتونس، العدالة والتنمية بالمغرب، حركة السلم الجزائرية..) لم تستطيع إلى حدود الساعة الدفع بعجلة الاصلاحات السياسات التي كانت الشارع العربي ينبض من أجل إقرارها إبان الربيع.
لكي يتم تجاوز هذه الازداوجية التي تطبع عمل الحركات الاسلامية،عليها أن تتبنى خيار العلمانية بشموليتها وتبعاتها المادية والسياسية ليتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه في زمن رقمي الكتروني بامتياز لم يعد يعترف بالمدافع الثقيلة ولا بطول البناء فكل شيء يتم تحويله الكترونيا لتسهل عملية السيطرة على كل البنى المشكلة لهذا الوجود، لذلك نبه المفكر المغربي عبد الله العروي العرب إلى ذلك وقال أن ما تبقى للعرب في التكنولوجيا لكي يتقدموا هو عالم المعلوميات “المرتبط بعلم الرياضيات والبرمجيات” وهذا لن يتأتى إلا بعملية تحديث حقيقية، بدأ بعلمنة الدولة وتحرير التعليم وبالإصلاح الديني…