حين عبرت على الفايسبوك عن اندهاشي من هذا المطلب الغرائبي، وجدت الكثيرين ممن يدافعون عن هذا الحق على أساس أن ذلك يمكنهم من السفر لإجراء المقابلات المهنية. لا يبدو لي الأمر مقبولا منطقيا لأن هناك العشرات من الفئات التي يمكنها أيضا أن تطالب بحقها المشروع -من وجهة نظرها- في السفر مجانا. لا أؤمن بالمجانية ولا بحق أية فئة من المواطنين في الاستفادة من خدمات لا يستفيد منها الجميع (اللهم بعض الاستثناءات مثل ذوي الاحتياجات الخاصة، المسنين…).
لكن أكثر ما أثار استغرابي هو مطلب جديد لمجموعة من حاملي الشهادات العاطلين. إلى جانب الحق في الوظيفة العمومية، طالبت هذه المجموعة بالحق في الحصول على تعويض عن عدم الشغل يعادل كل الفترة الممتدة بين تاريخ الحصول على الشهادة وبين التاريخ الحالي. باختصار، فكل شخص حصل على شهادة جامعية سنة 2000 مثلا، يريد الحصول على تعويض عن عدم الشغل (في الوظيفة العمومية) منذ ذلك التاريخ. أترك لكم متعة الحساب…
لنتحدث أولا عن هذا المطلب الجديد والعجيب، والمتعلق بالتعويض عن عدم الشغل. عملية بحث صغيرة عبر الحاج "كوكل" تمكننا من التعرف على هذا المفهوم. أولا وقبل كل شيء، فهو ليس نظاما اجتماعيا متوفرا في كل البلدان المتقدمة بل في بعضها فقط. في بلدان كفرنسا وكندا مثلا، يتم الحديث عن تعويض عن "فقدان الشغل" وليس عن "عدم الشغل". بمعنى أن الشخص لا يستفيد منه إلا إذا كان قد اشتغل لفترة معينة ساهم فيها، من خلال الاقتطاعات، في إمداد هذا الصندوق بالسيولة اللازمة.
كما أن الاستفادة من هذا التعويض تخضع لشروط معينة (مدة الاستفادة محدودة زمنيا، إجراء حد أدنى من اللقاءات للحصول على فرصة عمل جديدة…). عدم احترام هذه الشروط أو رفض ثلاثة عروض عمل مقترحة يجعل الاستفادة من هذا التعويض ملغية. وحدها السعودية توفر تعويضا عن عدم الشغل لأصحاب الشهادات العاطلين، لكن هذا التعويض يُلغى بدوره بمجرد اقتراح أول فرصة عمل على الفرد، سواء قبلها أم رفضها. لكن، هل لدينا الإمكانيات الاقتصادية لدولة منتجة للبترول وهل هذا هو النموذج الاقتصادي الذي نريد اتباعه؟
لنعد الآن إلى المطلب الأول: التشغيل في القطاع العمومي لا غير. لماذا يصر معظم هؤلاء الخريجين على الوظيفة العمومية؟ لأن القطاع الخاص يفرض الكفاءات والمردودية؟ أحد الأصدقاء رد بأن مستوى التعليم في المغرب يجعل كفاءاتهم بعيدة عن أن يقبل بهم القطاع الخاص. لا أحب لغة التعميم على أساس أن كفاءات وطنية كثيرة في قطاعات عدة هي خريجة القطاع العمومي؛ لكني مع ذلك أقبل بون تردد النقاش حول قطاع التعليم في المغرب ومستوى مواكبته لحاجات السوق الحالية. أقبل بدون نقاش كوننا مازلنا نركز على شُعب لا يحتاجها سوق الشغل وننسى استباق احتياجات هذا السوق حتى نوفر له الكفاءات التي سيحتاجها في السنوات المقبلة، وهذه مسؤولية الدولة بشكل أول. لكن، لنعد إلى قراءة التعليق أعلاه، وهو للإشارة تبرير يؤمن به الكثيرون: هؤلاء المحتجون هم أشخاص حاصلون على شهادات عليا من قطاع التعليم العمومي، لكن بدون مستوى الكفاءات التي يستلزمها القطاع الخاص، وبالتالي فلا يمكنهم أن يجدوا مُشغّلا آخر غير القطاع الحكومي. هذا يعني أننا كمواطنين، علينا -حسب هذا المنطق- أن نقبل خلال كل السنوات المقبلة مستوى خدمات متردٍّ في معظم القطاعات العمومية، على أساس أننا اليوم نطالب الحكومة بتشغيل أشخاص نعترف أنهم -ربما- لا يملكون ما يكفي من الكفاءات.
أعتقد أنه لا ضير من أن ننادي ببعض العقلانية في احتجاجاتنا، وإلا أصبح النضال مبتذلا وغير ذي معنى. نعم للاحتجاج ضد مستوى التعليم في بلادنا، لأنه كقطاعات أخرى كثيرة يشكو من العديد من أشكال الخلل، لكن علينا أن نتعلم أيضا أن ليس كل شيء صالحا لأن يصبح شعارا نتغنى به. نعم لثقافة العمل والكفاءة والاستحقاق، في القطاعين العام والخاص. وهذه قيمة نحتاج ربما أن نجعلها مادة خاصة في برامجنا التربوية والتعليمية.