تحقيق: أحمد الطيب – الرباط //
شجعان هم..
شجعان هم الذين استقلوا القطار نحو القنيطرة أو قادمين منها يوم الخميس الماضي بعد أن تم تحرير السكة وإزالة العربات التي زاغت عن مسارها وانقلبت ثلاثة منها مخلفة 7 قتلى و125 مصابا حسب آخر تحديث لوزارة الصحة، في واحدة من أكبر الكوارث السككية في تاريخ المغرب.
إنهم مؤمنون جيدون، يثقون في النظام -ولا خيار لهم غير ذلك فلا توجد وسائل مواصلات بديلة- ويعتبرون -مجبرين- أن ما حصل مجرد استثناء لا يتكرر كل يوم. والمكتب الوطني للسكك الحديدية يحتاج فعلا إلى هؤلاء المؤمنين المخلصين -حطب الماكينة الفاسدة والمهترئة- ليستمر في اجترار كذبته المخجلة: على خطوطنا يقرأ المستقبل (المظلم حتما)، ورتق الرتق والاستهزاء بالجميع كأن شيئا لم يحدث.
فهل ما حصل هو مجرد استثناء فعلا في نظام موثوق به يعمل بفاعلية تامة؟ أم أن الكارثة كانت متوقعة بعد سنوات من تردي الخدمات وانقطاعها، ومن التأخرات اليومية للرحلات التي تنتهي غالبا بدخول القطارات في ثقوب سوداء والتخلي عن المسافرين جوعى وعطشى ساعات في الخلاء؟
لنرو أولا ما حصل بالتدقيق، من خلال المعطيات الأولية التي جمعنا وحللنا، والتي وصلت من مصادر “كَود” داخل المكتب الوطني للسكك الحديدية.
في يوم الثلاثاء حوالي التاسعة و45 دقيقة وحسب شهود عيان لـ”كَود”: يدخل القطار القادم من الدار البيضاء إلى محطة القنيطرة وينزل الركاب لكي يحتجوا لدى مدير المحطة ويعلموه بأن القطار قد اهتز بعنف عند عبوره محطة سيدي الطيبي وكاد يزيغ عن السكة. سيبلغ سائق القطار مركز السير السككي (régulation des trains) بأن هناك خللا ما في السكة دون أن يذكر ما حصل حقيقة، أي أنه تجاوز السرعة التي حددها له التشوير السككي ولم ينتبه لتخفيف السرعة وتبديل السكة بسرعة 60 كلم/الساعة، وسيعبر البدال بسرعة تقارب 120 كلم/الساعة.
لماذا كان هناك تبديل سكة في محطة سيدي الطيبي؟ لأن السكة رقم 1 كانت غير مؤهلة للسير في تلك الأثناء فتم اعتماد السكة الوحيدة المؤقتة (la Voie unique temporaire)، أي أن القطارات القادمة من الاتجاهين ستسير بتعاقب على نفس السكة، كما هو الحال في القطاعات التي لا تتوفر على سكة مزدوجة، قطاع فاس وجدة مثلا.
ستتخذ الإجراءات الروتينية المألوفة في مثل هذه الحالات حسب مصادر “كَود” وسيتم إعلام قائد الإقليم السككي وأحد المراقبين لكي ينتقلوا لعين المكان ويتفقدوا بدال السكة (l’appareil de voie) عند المحطة المذكورة وسيتخذ القرار بتغيير التبديل من محطة سيدي الطيبي إلى محطة بوقنادل احترازيا حتى التأكد من سلامة بدال سيدي الطيبي. لكن القدر لن يسعف الرجلين لكي يصرحا بأن البدال ليس هو المشكلة، وسيتم الاتصال بهما وهما في طريقهما نحو سيدي الطيبي، فالقطار التالي والقادم من الدار البيضاء قد زاغ عن السكة وانقلب عند بوقنادل.
لماذا لم يزغ القطار الأول في سيدي الطيبي؟ لأن البدال في تلك المحطة من النوع الأقل انحناء (tangente=0.055) ويسمح بتبديل بسرعة 100 كلم في الساعة، لذلك لما عبر القطار بسرعة تقارب 120 كلم في الساعة لم يزغ عن السكة، وإنما حدثت فقط تلك الرجة العنيفة التي أحس بها الركاب.
ولماذا زاغ القطار الثاني عند بوقنادل؟ لنفس السبب بالضبط. لم يشاهد لا السائق ولا رئيس القطار تشوير تخفيف السرعة والتبديل، علما أن هناك تشويرين متعاقبين، تشوير أول وتذكير بعده عند الإقتراب من البدال. لكن البدال في بوقنادل لا يسمح بنفس السرعة، فقط 60 كلم في الساعة، وقد عبره القطار بسرعة 156 كلم في الساعة.
يجب التذكير حسب ،ما قاله مصدر “كَود” ، بأن السرعة القانونية لسير القطارات ليست خاضعة لا لرغبة ولا لتقدير سائق القطار، وإنما عليه أن يتبع حرفيا ورقة الرحلة التي تخبره بالسرعات المحددة في كل مقطع، وعليه فضلا عن ذلك الانتباه للتشوير السككي واتباعه بتقديس كامل دون استنتاجات أو تفسيرات ذاتية. فبالنسبة لسائق القطار تشوير معطل هو علامة توقف. ولكن لماذا عبر السائقان البدالين بسرعات مختلفة في مقطع من سرعة نظامية واحدة؟ أغلب الظن أن سائق القطار الأول تنبه إلى تشوير تخفيف السرعة متأخرا، أي عند التذكير، وقام بتقليص السرعة ونجا من الخروج عن السكة، بينما السائق الثاني لم ينتبه لأي واحدة من التشويرات.
إلى حد هذا الجزء من الرواية مدير المكتب الوطني للسكك الحديدية مرتاح ومتفائل والمدراء والمسؤولون بالمكتب تنفسوا الصعداء، فالأمر يتعلق بخطأ بشري وجل من لا يسهو ولا يخطئ، فكل ما وصلنا من معلومات من مصادر “كَود” داخل المكتب، تفيد بأن السبب المباشر هو خطأ السائق بنسبة شبه مؤكدة، اللهم إذا ظهر عامل ثان كالحالة الميكانيكية للقطار وهذا شيء مستبعد.
لكن ومع ذلك، الشيطان يكمن في التفاصيل. فنحن سنسأل الآن السؤال المنطقي والمشروع، لماذا صدرت مثل هذه الهفوة القاتلة من أربعة من سائقي القطارات (سائقان ومساعدان)، محنكين وذوي خبرة كبيرة، وماذا فعل المسؤولون لكي يتجنبوا مثل هذه الهفوات؟ وهذا فعلا هو السؤال الأهم، والذي ربما لن يسأله أي واحد من محققي الإدارة المركزية.
أول ما نعرفه عن سائق القطار ومساعده الذي توفي رحمة الله عليه، أنهما تجاوزا سن التقاعد النظامي. فسن التقاعد في الوظائف التي تعرف ضغطا كبيرا وتتطلب يقظة واستنفارا عاليين في المكتب الوطني للسكك الحديدية هو 55 سنة. لكن لماذا يصر المسؤولون في المكتب على تمديد سن التقاعد حتى 60 سنة لمثل هذه الوظائف؟ ألا يوجد شباب يمكنهم تعويض المتقاعدين؟ هل هؤلاء المتقاعدون -نظريا- لا يستطيعون أن يستفاد منهم في مهمات أخرى ليكملوا 60 سنة أو أكثر إن شاؤوا في وظائف أقل مخاطرة. ماذا يستفيد المكتب من هذا التمديد في وظائف حساسة وخطيرة؟
وبالطريقة التي يسير بها م.و.س.ح مثل هذه الوظائق الحساسة، أغلب الظن حسب ماقاله مصدر مطلع لـ”كَود” فإن سائق القطار يعيش ضغط عمل رهيب ولا يستفيد من إجازاته كاملة وبانتظام، ويجر خلفه ومثله مثل أغلب سائقي القطارات (les mecaniciens)، وحراس الممرات (gardes barrière)، ورؤساء الأقاليم (chefs district) ورؤساء السير بالمحطات chefs de) circulation)، أشهرا من الإجازات غير الممنوحة، والتي لا تتيح لهم ظروف العمل الضاغطة وقلة الموارد البشرية أن يستفيدوا منها. ويمكن لأي واحد أن يسأل أي سائق قطار أو حارس ممر عن حساب عطله، سيجيبك على أقل تقدير برقم يتراوح ما بين الخمسين والمئة يوم عطلة.
أما العامل الثاني فهو حداثة التشوير الذي وضعته شركة بومبارديي على السكة الجديدة في محطة بوقنادل والتي ستستقبل القطار الفائق السرعة. هل تلقى السائقان التكوين الكافي والشامل للتشوير الجديد والمختلف كليا عن التشوير السابق، لكي يستطيعا تطبيقه بحذافيره؟ وإن كان هناك تكوين هل تم الحرص على أن يكون فعالا ودقيقا أم أنه كما كل التكوينات في مركز التكوين السككي شكلية وهدفها فقط إلقاء المسؤولية على المستخدم؟
ثالثا هل تم إعلام السائق بالطارئ الجديد على سير الرحلة، أي السكة الوحيدة المؤقتة VUT؟ سيجيب المشرعون بالإدارة المركزية، أن سائق القطار مكلف ومجبر على الانتباه إلى الإشارات مهما كانت الظروف ولا يحتاج إلى إعلام مسبق فذلك من صميم عمله. ولكن ألا تستحق الظروف الحالية للأشغال والصيانات المتكررة على السكة بسبب الخط فائق السرعة أن يتم إعلام السائقين بالتغييرات المتكررة في خط سيرهم؟ ألا تنتبه الإدارة المركزية إلى عدد الحوادث المحتملة التي ينجو منها القطار مرارا وتكرارا (المسجلة والمطموسة) بسبب التحديثات الجذرية التي تطال المنشئات عامة؟
وأما السؤال الأهم. لماذا لا يعمل نظام ETCS على متن القاطرات Z2M والقاطرات التي خرجت عن السكة في بوقنادل واحدة منها؟ فنظام ETCS يمنكه فرملة القطار إذا كان هناك تعارض بين التشوير وسرعة القطار كما حصل في الحادث الأخير. لماذا يعمل النظام فقط في قطارات الخطوط trains de ligne وليس في القطارات المكوكية؟ وهل توجد فعلا محطاته الأرضية وهل يتم مراقبتها أم النظام مخصص فقط للقطار فائق السرعة، البراق، الذي سيعرج فعليا بركابه إلى السماء العليا في مثل هذه الظروف التي يعيشها م.و.س.ح.
على المكتب الوطني للسكك الحديدية أن يجيب على هذه الأسئلة وأخرى تتعلق بظروف العمل الداخلية لسائقي القطارات وباقي الوظائف المتعلقة بالسلامة السككية، والذين لوحدهم يمكنهم أن يكشفوا عنها. لكنني متأكد بأنه لن يعلن أبدا أن نظامه مهترئ ومتهالك كما يعلم الجميع، ويحتاج إلى إعادة هيكلة عميقة لكي يستطيع توفير خدمة آمنة وذات جودة لملايين الزبناء.
سيعلق كل شيء عل الخطأ البشري، كما دأب أن يفعل في كل الحوادث التي وقعت منذ أن تولى ربيع الخليع إدارته سنة 2004. فلقد أطلق الخليع برنامجين منذ سنة 2005 للحد من الحوادث عند الممرات الطرقية، لكن لا أحد حاسبه على فشلهما. فلقد توفي ستة أشخاص في شهر فبراير السابق، في واحدة من سلسلة حوادث كارثية استمرت لأكثر من عشر سنوات، وقعت بنفس السبب القديم الجديد، الخطأ البشري، والذي تحول في عهد الخليع إلى خطيئة الإنسان الأولية وقد غفرها له المسيح وتحمل آلامها عنه.
سؤال آخر مهم يطرح نفسه. لماذا يقبل موظفو المكتب أن يعملوا في ظروف غير مواتية للسلامة السككية ويسمحون بأن يتدهور المكتب ويتردى إلى هذه الدرجة بعد أن عرف انتعاشا كبيرا مع مجيء ربيع الخليع في بداياته؟ الجواب هو أن الدولة تدخلت بعد إضراب 1981 وكسرت شوكة سائقي القطارات عبر شراء الولاءات في التمثيليات النقابية وإعطاء الجيش مهمة قيادة القطارات في حالات الإضراب (تولى الجيش أيضا مهنة حارس الممر الطرقي ومهنة رئيس السير بالمحطة). وبهذا فككت الدولة وبشكل غريب ولهدف غير مفهوم، أي تكتل من المفترض أن يدافع عن حقوق سائقي القطارات وعن ظروف عملهم وعن سلامة المسافرين.
لن يكفي مقال واحد ولا حتى عشرة مقالات لجرد مثالب م.و.س.ح والنبش فيها. ما يهمنا هنا هو حالة الارتخاء التنظيمية التي يعيشها، مثله مثل باقي مفاصل الدولة، والتي نتجت عن تغلغل إداريين في دواليبه منذ 2004، فتمكنوا منه وشكلوا “مافيا” حقيقية يمكن لأصغر موظف بالمكتب أن يجرد عليك أسماء أبطالها. أسوؤهم سمعة هم المكلفون بتمرير المناقصات وتسوية فواتير المشاريع. ومع مرور السنوات أصبحت هذه “المافيا” عصية على الاختراق، وتضامن أعضاءها فيما بينهم لتستمر في الاستفادة من الوضع القائم، ولذلك لن يفيد ألف افتحاص من المجلس الأعلى للحسابات بل سنحتاج إلى تدخل البسيج ولادجيد.
هذا الارتخاء والتهاون التنظيمي والفساد المنظم هو السبب الأساسي في الحادثة، مع أن سائق القطار يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية إذا صحت المعلومات التي وردت من داخل المكتب ل”كَود” و أكدها بلاغ النيابة العامة اليوم. لقد انشغل مسؤولو المكتب بالمشاريع العملاقة والمسيلة للعاب، التي أقحموا أو أقحموا أنفسهم بها، وتركوا أبجديات عملهم وسبب وجودهم الأساسي: العناية بالعنصر البشري، وصيانة المنشآت والقطارات، وتطوير الخدمات.
لقد أصبح المكتب الوطني للسكك الحديدية شركة عقارية تنشئ المحطات والفنادق في كل المدن (لا زلت لا أفهم ما علاقة السكك بالفنادق ولماذا يضيع المكتب قواه الخائرة أصلا في تشييد فنادق)، أكثر منه مسيرا للمنشآت السككية وضامنا للسلامة وانضباط المواعيد.
ولهذا… وإن لم يحصل تغيير حقيقي داخل هذه المؤسسة فسيظل الوضع على ما هو عليه، وسنبقى نسمع دائما من موظفيها لقد وقع كذا وكذا ولكن نجانا الله، وسيبقى مستوى القطارات مترديا وستظل القطارات دائما عالقة لساعات في اللمبوس، تفوح منها رائحة البول والجوع البشري، وركابها بمصائر معلقة، كقطط شرودنغر، أحياء وأمواتا في نفس الوقت، تبعا لعشوائية الاحتمالات المتداخلة.