لم يكن شرطي الحدود مكفهرا، ولا غليظا وهو يطلب منا، مصطفى البرايمي عن التقدم والاشتراكية وعبد ربه، أن نرافقه إلى ما وراء المكتب الزجاجي المتعارف عليه عالميا في المطارات. ولكنه كان قد أغلق مكتبه وانصرف، ونحن وراءه، إلى أن التقى برجل أمن آخر، بلباسه الأزرق الفاتح. سلمه جوازي سفرنا، ثم طلب منا أن نسحب حقائبنا «الباگاج»، وأن ننتظر.
سحبنا حقائبنا الخفيفة وبدأنا ننتظر.
كنا قد وصلنا إلى الحاجز الأمني، وبدأ الشرطي النحيف في إجراءات السفر الروتينية.
وعندما سألنا عن الهيئة التي ستستقبلنا، قلنا له إنها جبهة القوى الاشتراكية. فرفع رأسه ثم احناه، ورفعه مجددا ليطلب منا أن نرافقه.
جلسنا على كرسي في البهو، قبل الخروج.
مرت خمس دقائق.
عشر,
ربع ساعة.. عشرين دقيقة..
جاءنا رجل أمن آخر وطلب منا أن نرافقه إلى حيث مكتب آخر.
وقفنا بالقرب من المكتب، ونحن نمازح بعضينا. قلت للرفيق مصطفى ها أنت أصبحت فلسطينيا كما في قصيدة درويش، جواز السفر.
كان علينا أن نستنجد بالرومينغ لكي نخبر رفاق الجبهة الاشتراكية في الجزائر أننا وصلنا، حتى لا يغادروا المطار اعتقادا منهم أن الطائرة وصلت وأن «المراركة» لم يصلوا.
تم ذلك، فاتصل الأمين العام كريم طابو ليطمئن علينا، وسألنا السؤال العربي الخالد« هل أساؤوا معاملتكم»،
وهل كان ذلك ضمن الأجندة المفترضة لعلاقة الأمن الجزائري بالمغاربة.
أجبنا، بإضافة أخرى: كلا، بل أساؤوا احترامنا للوقت..
على كل، بعد أربعين دقيقة خرجنا من المطار.
ما أضاف مسحة كافكاوية على المشهد هو صوت معلنة التعليمات في الميكروفون اللامرئي.
كانت تردد أن التدخين ممنوع في قاعات المطار، والحال أن البهو كان فارغا تماما، اللهم نحن الاثنين و.. الأمن.
يبدو أنها تعتقد بأن الأمن لا يحترم منع التدخين.
على كل، اعتذر مستقبلنا على ما وقع، وابتسمنا جميعا، وتوجهنا إلى الفندق ريجين بالقرب من الميناء الجميل جدا للجزائر.
كان البناء جميلا للغاية، والغرف بسيطة. وجدنا عاملة تنظيف من بني ملال، سوق السبت بالضبط.
أصبحت راعيتنا في بلاد «الخاوا».
الشاب الذي يوجد في الاستقبالات رحب كثيرا بالمراركة إخوانه، وسرعان ما أصبح يبادلنا الدعابات،
قال كلاما صريحا ومليئا بالعفوية «المرة الوحيدة التي أشعر بأنني لا أنافق نفسي، هي لما أقول أن المغاربة خوتي».
في العبارة ما يسعف أكثر من التوضيح.
هو نفسه الذي أمسك بجواز السفر، قال لنا لما ألححنا عليه في يوم الغد لماذا يصر على أن يبقي الوثيقة بين يديه، وأننا قد نحتاجها في الجولان في شوارع المدينة؟
قال ما بين الجد والهزل «يا أخي خليوه عندنا، فربما المخابرات تحتاجك، وأنت صحافي وتغبرك عنا، يبقى جوازك معانا».
على كل، كان علينا في ظهيرة نفس اليوم أن نجوب شوارع القصبة، المدينة الأصلية على مشارف باب الواد.
ما بين أزقتها الصغيرة و«المگرگبة» ، أي المحفرة، بلغة أهلنا في الجزائر، وبين تاريخها الرائع وكثافة هندستها الموزعة ما بين ظلال المدن العتيقة وبين الأرواح التي يبدو أنها مازالت تتنفس وتدفئ أزقتها الضيقة.
في كل منعطف أو منطقة، في كل محل أو حانوت نقترب منه، كان ترحيب غير مفتعل وغير سياحي يقابلنا «اولاد عمنا انتوما أو انتموا خاوتنا ».
شعرنا بالفعل بأننا في بلادنا وبين أهلنا.
لا أحد لا يبتسم بمجرد ما ننطق بكلمة تظهر بأننا مغاربة.
زرنا بيت علي لا بوانت، واسمه الحقيقي علي عمار. وهو من شهداء الثورة، اشتهر بمشاركته في معركة الجزائر، وقد شهد شخصيا على تنظيف القصبة من الخونة الذين كانوا يشتغلون لفائدة الاستعمار.
وكان مرافقنا، يوسف، الابن البار للقصبة فعلا، يحفظها بيتا بيتا، ووجها وجها، في كل منعطف يعرب عن الاعتزاز الكبير بما يعرفه عن تاريخ القصبة وأهلها.
ويحفظ بالفعل كل ركن فيها، كل حجر، وتاريخه الفينيقي أو … الأندلسي المغربي.
في كل بناية معروفة يحدد حجم مساهمة «إخواننا المغاربة».
يحلم يوسف بالمجيئ إلى الريف، لزيارة مواقع عبد الكريم الخطابي، الذي يقول عنه سيدي.
يحلم بالمجيئ إلى تنملو حيث المؤسس الموحد، ويحلم بعد ذلك بمراكش وبفاس، لكي «يقدر حجم ما ضاع من هوية الجزائر» وحافظ عليه المغرب.
في القصبة دخلنا محلا لبيع المرطبات، وأصر صاحبنا يوسف على أن نتناول روح اللوز.
وجدنا المحل لعائلة سيرري، التي فقدت أبناء وأهلا في الحرب التحريرية.
كان الإبن الأصغر ساخطا بدرجة لا تقدر، كان أمامنا يلعن الحكام اليوم والذين «جعلونا نندم على الاستقلال»،
« قل لي خويا، واش هادوا انتاع اليوم اللي يحكمونا يقدروا يبنوا واحد حاجة؟ أخ، الله يرحموا هذا، ويشير لصورة قديمة يظهر عليها جندي فرنسي!! لو كنا نعرفو ما يصير بنا ما متنا في حرب التحرير باش مجموعة ما عرفناهم في حرب التحرير ياخذوا البلاد وجماعة هادي تاكل في دمنا».
صدمتنا قوة غضبه وقوة حديثه وهو يناقش مع يوسف عن أسماء كثيرة يتم تغييبها وكانت «أكثر خويا من عالي لوبوانت الله يرحمو».
(ينشر في “كود” بالاتفاق مع الجريدة والكاتب)