كود – كازا///

بمعركة صامتة تدور رحاها خلف جدران مراكز الامتحان، يتكشّف وجه جديد لمصالح الأمن الوطني، ومعها مديرية مراقبة التراب الوطني، لا يمارس فقط بزي رسمي أو في ميدان تقليدي، بل يبرز عبر تدخلات دقيقة، محسوبة، وذات طابع استخباراتي، تستهدف عمليات خفية تحاول تقويض جوهر العملية التعليمية من الداخل.

كسر شيفرة السوق السوداء للغش الرقمي

في العمليات التي نُفذت بكل من أكادير إنزكان، تزنيت وتارودانت…، جرى رصد وتفكيك بنيات غير مرئية تشتغل خارج المجال المؤطر قانونيا، وتعتمد على تقنيات اتصال مشفرة، وأجهزة بث لاسلكي عالية الدقة، كما أنها ليست مجرد موجة توقيفات موسمية تتكرر كل عام مع زمن الامتحانات، بل هي تعبير عن تحول عميق في فهم الأمن التربوي، باعتباره أحد أذرع الأمن الوطني، حيث تصبح المدرسة مجالًا ميدانيًا تُستثمر فيه قدرات الشرطة القضائية، وتُوظف فيه إمكانيات المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، بذكاء تقني، ويقظة إلكترونية، واستباق استخباراتي.

ففي أكادير، لم يكن الأمر محصورا في توقيف شخص بحوزته أجهزة مهربة تستعمل في الغش، بل تطور إلى تفكيك خلية مصغرة يشتبه في إدارتها لعملية إمداد إلكتروني مباشر لأجوبة الامتحانات، انطلاقا من شقة سكنية، وبمقابل مالي. التلميذ لم يعد فقط طرفًا مستغلًا، بل أصبح جزءًا من حلقة تُدار بعناية، تضم أساتذة، طلبة جامعيين، وتجار أدوات رقمية دقيقة، تتصل بشبكات الاتصالات وتعمل على بث مباشر للمعلومة.

كما، جرى ضبط مرشحين اثنين بأحد مراكز الامتحان وهما بصدد الغش في امتحان مادة اللغة العربية، وبعد ضبطهما تم العثور بحوزتهما على معدات إلكترونية تستعمل في الغش.

بلاغ للوكيل العام بأكادير، أوضح أن نتائج البحث في الموضوع تحت إشراف النيابة العامة المختصة، أسفرت عن ضبط خمسة أشخاص بإحدى الشقق وهم في اتصال بالمرشحين، وبعد إجراء التفتيش القانوني عثر بحوزتهم على حاسوب وهواتف نقالة تمكنهم من الاتصال بالمرشحين لاجتياز الامتحانات، إضافة لمجموعة من الحوالات المالية مشكوك في مصدرها.

وفي نفس الإطار، يضيف المصدر ذاته أنه جرى ضبط أحد الأشخاص بمقهى بالقرب من أحد مراكز الامتحان وبحوزته معدات الكترونية تستعمل في الغش في الامتحانات.

ووضع المعنيين بالأمر تحت تدابير الحراسة النظرية لضرورة البحث، كما أعطيت التعليمات للضابطة القضائية لمواصلة الأبحاث والتحريات في حق كل من تبث تورطه في الأفعال الاجرامية موضوع البحث.

بذات المدينة، كانت العملية الأمنية، قد رسمت قبل أزيد من شهر ونصف مفاصل خارطة معقدة لتجارة الغش الرقمي، حيث تمكنت المصلحة الولائية للشرطة القضائية، بتنسيق وثيق مع مصالح المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، من توقيف رجل الثلاثين عاما بالحي المحمدي، ليكشف بحجم مخزونه المذهل عن معطيات رقمية لوسائل الغش تُقدر بالملايين.

وكانت الكمية المحجوزة تُظهر حجم الطموح الإجرامي: 1587 سماعة لاسلكية من مختلف الأصناف، و1500 بطارية صغيرة الحجم، إضافة إلى 1500 شريحة اتصال خاصة بالهواتف المحمولة، فضلاً عن مبالغ مالية وهواتف نقالة وسيارة نفعية فارهة تعكس حجم الأرباح المتوقعة من هذا النشاط الإجرامي.

وفي مدينة أولاد تايمة، تكشفت قصة أخرى تؤكد عمق الاختراق الرقمي للفضاء التربوي، حيث أسفرت عملية أمنية مشتركة بين مصالح الشرطة القضائية ومراقبة التراب الوطني عن توقيف شخصين ينحدران من منطقة الكفيفات، للاشتباه في تورطهما في ترويج أجهزة إلكترونية متطورة. وقد انطلقت هذه العملية من رصد استخباراتي دقيق لمنشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، تتضمن إعلانات مشبوهة تروج لمعدات إلكترونية متطورة، من بينها ما يُعرف بأجهزة (VIP)، التي قد تستعمل لتسهيل الغش أثناء اجتياز الامتحانات الإشهادية.

تارودانت لم تكن أقل أهمية، حيث تم حجز خمسين سماعة لاسلكية دقيقة، ما يعكس حجم الطلب على أدوات الغش، ويؤشر إلى سوق موازية تتغذى على هشاشة المنظومة القيمية لدى البعض، لكنها تجد أمامها جهاز أمن وطني متأهّب، يعمل على تطويق هذا النشاط من جذوره.

التتبع، التحري، الرصد، ثم التدخل، كلها خطوات تُدار بإيقاع منضبط يعكس تمرسا في تفكيك الظواهر الناشئة، حتى وإن كانت رقمية الطابع.

تزنيت بدورها شكلت حلقة أخرى في هذا الجدار الوقائي، حيث تم ضبط معدات إلكترونية وشرائح هاتفية تستعمل في ترويج وسائل الغش، في عملية تبرز كيف أصبحت الشرطة القضائية قادرة على اختراق مستويات التخفي والتقنيّة التي تعتمدها هذه الشبكات، بفضل المعلومات الدقيقة التي توفرها إدارة مراقبة التراب الوطني، والتي باتت تُمارس دورًا حاسمًا في حماية قطاعات حيوية، كالتعليم.

تحول في العقيدة الأمنية.. الغش لم يعد مخالفة

ليس مبالغة القول إن هذه العمليات الأمنية تدار بنفس العقلية التي تُدار بها قضايا الإرهاب أو تهريب المخدرات، من حيث المنهجية، الاستباق، والتحقيق المعمّق. فالخطر هنا، وإن اختلفت أدواته، يستهدف أحد أعمدة الدولة الحديثة: المدرسة. وإذا ما تم اختراق هذا العمود، فإن الانهيار سيكون صامتًا، لكنه عميق الأثر، ممتدًا في الزمن، ومُهددًا لما تبنيه الدولة من ثقة، كفاءة، ومصداقية.

من الأمن السيبراني إلى الأمن التربوي

والظاهر أن الأمن التربوي، قد أصبح، في ضوء هذه المعطيات، امتدادًا للأمن السيبراني الوطني، تُمارَس فيه الرقابة الاستخباراتية استنادًا إلى معايير الحماية الرقمية، وتُخاض فيه معركة على جبهتين: جبهة ميدانية تُواجه السلوك الإجرامي، وجبهة سيبرانية ترصد الخروقات عبر الفضاء الرقمي.

فالمديرية العامة للأمن الوطني، والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، أبانتا، من خلال هذه العمليات، عن انخراط نوعي في معركة الأخلاق التربوية، حيث يتم التعامل مع الغش كجريمة منظمة، لا كمخالفة عابرة.

هذا التحول في المقاربة الأمنية لم يأت من فراغ، بل يعكس وعيا استراتيجيًا بأن التربية والتعليم لا يمكن أن يبلغا أهدافهما في ظل منظومة يفتك بها الغش، وتُخرّبها الوسائط الرقمية حين تُستعمل في غير موضعها.

إن القيمة الحقيقية لهذه العمليات لا تكمن فقط في عدد الأجهزة المحجوزة، أو الشبكات المفككة، بل في الرسالة الرمزية التي تُبعث إلى المجتمع بأسره: أن الدولة حاضرة، يقِظة، وتعتبر أن الغش في الامتحانات هو غش في المستقبل، في الوطن، وفي المواطن.

في واقع أصبحت فيه التكنولوجيا سلاحًا ذا حدّين، اختارت الأجهزة الأمنية أن تجنح إلى الحدّ الذكي، أن تُواجه التقنية بالتقنية، والخداع بالتحقيق، وأن تعيد الاعتبار لقيمة الاستحقاق، في زمن تُغري فيه الاختصارات الكثيرين.

هذه إذن، ليست حربا على الغش فقط، بل معركة من أجل العدالة المعرفية، يقودها الأمن، وتراقبها الدولة، ويتنفسها المجتمع.