كود كازا//
يواصل الفنان التشكيلي محمد المرابطي اشتغاله على فكرة يتركها تختمر في الرأس، قبل أن يوحد مواضيعها على لوحات تختلف في الاشتغال والألوان لكنها تشترك في الأسلوب والبناء. لذلك، هو لا يسرع في عرض ما يرسم، أو يكمل بما “عطا الله” من أجل إثبات وجوده الإبداعي. بل يأخذ وقته ويعتزل في مقامه، الذي اختار بناءه في مدينة تحناوت جاعلا منه زاويته الشخصية، لكنها لا تخلو، أبدا، من المريدين، من المغرب والعالم.
هناك، في المقام الذي تعلوه قبة أشبه بضريح الأولياء، ينتظر المرابطي فكرته، أو هي من تتحرش به. “أنا ما كنقلبش على الأفكار، هي اللي كتفرض راسها عليا”، يقول الفنان الذي دخل هذا المجال الصعب من باب العصامية، مراكما كل النجاحات التي يمكن أن يحلم بها فنان تلقى تكوينا أكاديميا.
أخيرا، افتتح محمد المرابطي، بدار دُنيز ماصون في مراكش، معرضه الجديد الذي اختار له عنوان “كتابة التضحية”، مستحضرا فيه صرخة ودم أضحية “العيد الكبير” بين دخان البخور وصخب القراقب الكناوية.
“جات الفكرة في زمن كوفيد، في الوقت اللي كانو الناس خايفين من الموت. شخصيا قررت البحث عن هاد الموت. هنا ظهرت لي المقابر، ومشيت لمدينة فاس باش نشوف مقابرها. منين بديت كنطور الفكرة، حضرت البهيمة التي كنضحيو بها، أو ولات مشاركة في هد الموضوع. اختاريت أنها تحضر”، يكشف المرابطي عن سر فكرة معرضه الأخير، في حديث مع “كود”.
“بلا شك، إنها الشكوى الأخيرة بصوت خافت للمرابطي-صوت الدم الذي يدخل الى عمله الفني… تحدد التضحية حدود صرخة البهيمة على اللوحة، متجاوزة الإيقاع اللحني لشغفه المعتاد. بين دخان البخور وصخب القراقب الكناوية. هكذا هو المرابطي. دوار. افتتان. انبهار. إلهام يتجاوز الحدود. عبقريته الاندفاعية تبحث عن ألف طريق مضطرب للتعبير عن ذاته… في لحظة الصرخة، الحمراء مثل شمس قرمزية، أصيلة، تنتشر في طبقات متتالية، في خطوط خام على ألياف اللوحة، متجاوزة أحيانًا إطار الخيال الإبداعي للفنان، لتسمية ما لا يمكن تسميته. أحمر خصب – تشنجات البهيمة المذبوحة على البياض النقي للوحة، تتحول إلى عمل فني بمهارة رجل متعطش لذكرى طقوسنا في الأضاحي..”، يكتب الأكاديمي عبد الحق سرحان في قراءته النقدية لمنجز المرابطي. ويضيف سرحان: “تكمن فضيلة المرابطي في تفضيله للحياة على الموت. في المنتصف بين الاثنين. إنه يلامس الموت على شواهد القبور، وفي هذه التضحية القصوى التي تتحول إلى أعمال فنية مخالفة للتعبير التقليدي. نحن عند الحد الأقصى من انهيار القواعد المتعارف عليها. بإغراق القماش بدماء تسيل من عنق الحيوان، يمنحه بعدًا ماديًا، مسكونًا بنشوة الألوان الحميمة وأشكال الندوب القاسية، كنوع من انتصار الرمز الروحي للفنان على حيوانيته”.
وعن اختياره لتجسيد محاولة سيدنا إبراهيم ذبح ابنه إسماعيل، يقول المرابطي لـ”كود”: “دار دُنيز ماصون كاينة في درب زمران بباب دكالة وهو حي شعبي. بغيت بلوحة سيدينا إبراهيم نبسط الفكرة لدى الجمهور والمتلقي العادي”، فيما يكتب سرحان: “هل يعني هذا أن قربان المرابطي تقدم للأرواح كعلامة على التكفير عن الذنوب؟ إن فنه يصبح راسخا، وبالتالي مثيرًا للدهشة أو مخيفا؟ إذا كان معنى التضحية الأصلي هو التخلي عن الروابط الأرضية، فإننا نجد حتمًا أسطورة إبراهيم وإسماعيل، حيث الغاية هي تطهير الروح والتوبة”.
لكن من المحال أن يتوب المرابطي من مس الرسم، كما من المحال ألا يستمر في مطاردة الفكرة قبل أن يبدأ الرسم. هكذا، فعل في معرضه “بين الرسم والشعر” الذي أنجزه مع شعراء على امتداد عشر سنوات. وأيضا، معرضه “إفريقيا، بلا حدود” ينقل فيه “ما نعيشه ونلاحظه من تركيز على القارة السمراء”، على حد قوله. أو معرضه ما قبل الأخير “الفن والأشكال العمودية”، الذي احتضنه مركب محمد السادس الإداري والثقافي، التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مراكش، يتمحور موضوعه حول أضرحة الأولياء الصالحين.
وكان من المثير للانتباه، حينها، أن أحمد توفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، هو من كتب مقدمة للمعرض، جاء فيها أن “قبة أضرحة الأولياء الصالحين تشكل العنصر المحوري في عمل المرابطي، باعتبارها منشآت تفرزها الثقافة من أجل ترسيخ النموذج الأمثل للإنسان في طريقه نحو السمو عبر محبة الله ومخلوقاته… هذا العنصر المحوري يعبر عن العمودية”.