حسن حمورو ///

قد لا تكون الآليات والميكانيزمات التي يُتيحها التحليل السياسي، قادرة على استيعاب كل ما ظل يقوم به حزب العدالة والتنمية وزعيمه عبد الإله بنكيران من موقع رئاسة الحكومة، ذلك أن التقييمات السلبية التي قوبلت بها العديد من قراراته ومواقفه ووصفها بالضعف والعجز والتنازل وخدمة أجندات السلطة التي أعلى منه، أو حتى أجهزة ومؤسسات بالخارج، لم تُسعف خصومه في إلحاق الهزيمة به عند اول محطة محاسبة اُتيحت امامهم والمتعلقة بانتخابات 4 شتنبر.

والحقيقة أن الإشكال عند الصادقين بالأساس ممن تولوا عملية التقييم والمساهمة في النقاش العمومي المرتبط بأداء الحكومة والحزب الذي يرأسها، كان متعلقا بمستوى إدراك المهمة التي انتدب الحزب نفسه لها، وقرر المساهمة فيها مهما كانت نتائجها على تقييم الغير له، أما خصومه الحقيقيون المدركون لحركية التاريخ والمجتمع والعارفون بمسارات ومآلات الفعل في المجتمع، فقد تولوا كِبر المواجهة المفتوحة باستعمال كافة الاسلحة المشروعة وغير المشروعة الظاهرة والخفية، وما يزالون أوفياء لمنهجهم وكذلك سيظلون.

إنه ليس من الحدّية في شيء، القول بأن الذين استعملوا مفردات العجز والضعف والتنازل في توصيف عدد من مواقف رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، لم يستوعبوا أن حزب العدالة والتنمية لم يكن هدفه تدبير مرحلة سياسية مؤطَّرة بدستور يحدد الصلاحيات والاختصاصات من الناحية النظرية، ومتميزة بأغلبية في مجلس النواب، تُمكن نظريا كذلك من تمرير النصوص القانونية التي تتطبلها، وإنما كان وما يزال بصدد تدبير تحوّل مجتمعي عميق، أو على الأقل المشاركة فيه من موقع القيادة، وإلا لكان قد أجل الخوض في الكثير من الملفات ذات التكلفة السياسية والشعبية وتأخير الحسم فيها كما فعلت الحكومات السابقة، جريا وراء عائد انتخابي ضيق قد يكون في مصلحة الحزب آنيا، لكنه لن يكون في مصلحة الوطن، ولا في مصلحة الحزب نفسه على المدى البعيد.

وطبعا مرجعيات تقييم أداء “العدالة والتنمية” في تدبير المرحلة السياسية التي كانت بدايتها يوم 25 نونبر 2011، وتنتهي عند الانتخابات التشريعية لسابع أكتوبر 2016، مُختلفة بشكل كبير عن مرجعيات تقييم أداءه في تدبير التحول الذي يعتمل في صمت وبعمق في المجتمع، خاصة بعد 20 فبراير 2011.

إنه بمعايير تدبير المرحلة السياسية إذا نظرنا إليها مجردة، قد يكون العدالة والتنمية من خلال أمينه العام رئيس الحكومة أخفق في الكثير من المهام، ذات العلاقة بالصلاحيات وحدود الاستماتة في ممارستها، والذوذ عنها، بمرجعية الدستور والأعراف الإدارية والقانونية، وقبلها تدبير حقائب الحكومة والاختيار فيما بينها، وفي مهام أخرى، لكنه أراد أن يُعطي الدليل على أن ما جاء من أجله إلى الحكومة أكبر من مجرد صلاحيات ومناصب وزارية أو إدارية، لذلك كان يتخذ قرارات التنازل والتجاوز بكل شجاعة، خدمة لما هو أكبر، وتفاديا لإرباك المسار الذي يظهر أن الحزب يرى أنه ما يزال طويلا وشاقا، لأنه مرتبط بنفسيات وبتراكمات وبثقافة ظلت سائدة، أثرت فيها عوامل كثيرة تعي جيدا قيادة الحزب، أن إزاحتها ليست بالأمر الهين، ومنصة الإزاحة ليست هي الحكومة ومواقع القرار فقط.

قد يقول متتبعون إن حزب العدالة والتنمية لم يكن مؤهلا لتنزيل مقتضيات دستور 2011، وقد يقول آخرون إن الحزب لم يكن مؤهلا لخوض معركة تحرير الإدارة والإعلام العمومي، وتولى عمليات اعتُبرت غير شعبية، وقد قيل ذلك فعلا بخلفيات مختلفة، الكثير منها ليست بريئة، وكانت تخدم حسابات أخرى، لا علاقة لها بالغيرة على موقع رئاسة الحكومة ولا على الدستور ولا على المواطنين والفئات الشعبية، وسواء اتفقنا أو اختلفنا بحسن نية مع هذه التقييمات، فإنها أصلا لم تكن ذات اعتبار كبير عند عموم المواطنين المعنيين بالتقييم المباشر لتدبير الحزب للمرحلة، من خلال مناسبة الاستحقاقات الانتخابية، لذلك احتل العدالة والتنمية المرتبة الأولى في أول انتخابات تجري في هذه المرحلة، بل تجاوزت نتائجه في اقتراع 4 شتنبر كل التوقعات، وفندت كل التكهنات وكشفت خطأ مقاربات التقييم استنادا إلى مرجعيات المرحلة السياسية فقط، وأبرزت أن عمق المجتمع يلتقط جيدا ما يقوم به العدالة والتنمية، وربما يتفاعل معه بحركية موازية تنقلها بين الفينة والأخرى وسائل التواصل الاجتماعي.

إن المليون و700 صوت التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات الجماعية والجهوية، كانت رسالة مفادها أن المعايير ذات الصلة باستحقاقات المرحلة، التي استُعملت في تقييم هذا الحزب لم تكن كافية لتوضح ما كان له وما كان عليه، وقابلتها إشارات منه على أن غير معني بشكل كبير باستحقاقات المرحلة فقط، وإنما معني بالمساهمة في قيادة التحول الذي يعرفه المجتمع، على جميع الأصعدة، وخصومه الحقيقيون يُدركون جيدا هذا الأمر، لذلك كانت الهجومات والحملات المنسقة ضده، والتي لم تتوقف منذ بدايات مشاركاته السياسية، تستهدف إمكان تدخلاته في كل جيوب المجتمع، وتصاعدت حملاتهم بمجرد وصوله إلى موقع رئاسة الحكومة، بالنظر إلى ما يتيحه الموقع من إمكانات إضافية بمشروعية سياسية وانتخابية، وهذا ما يُفسر ردود فعل استهدفت محاولة إبطال أو تبخيس قرارات غير مسبوقة للحكومة، لأن أثرها الايجابي على المجتمع، لا يستجيب للخلفيات النظرية التي تؤطر النموذج الذي ترعاه الأحزاب السياسية ومختلف الأذرع المنتشرة في بنية الدولة التي تصدت لردود الفعل هاته.

لكن الحزب استمر على الخط نفسه، الذي رسمه منذ بداياته الأولى، وبدا واضحا أنه اعتبر الوصول إلى موقع الحكومة، فرصة مناسبة لاختبار مدى نجاعة مقارباته في تدبير التحول المجتمعي الذي ظل يؤمن بها ويؤصل لها، بما تشهد عليه أدبيات الحركة الإسلامية، التي تنحدر منها أغلب قياداته، ففضل أن يترجمها إلى شعارات الإصلاح بدل التغيير أو الثورة، والتعاون والتوافق بدل الصراع والتنازع، والتعاون على الخير مع الغير، وتوظيف المتاح أمامه داخل مؤسسات الدولة، لإشاعة ثقافة تدبير حديثة، لكنها تجد صداها في المقومات الاجتماعية والحضارية للأمة المغربية، أو نفض الغبار على ثقافة تعرضت للإزاحة بفعل محاولات الإحلال القسري لثقافة أخرى، تم إرساؤها في لحظات وهن وضعف تعرضت له الدولة على مدى فترات منذ الاستعمار.

إن حزب العدالة والتنمية فيما يظهر من مضامين أطروحة مؤتمره الأخير، وكذا من تصريحات أمينه العام وعدد من قياداته التي تشتغل في مجال “التحريض السياسي”، على وعي بأن نجاحه الحقيقي لا يكمن في تدبير المرحلة السياسية التي يتولى فيها تسيير الشأن العام الوطني، بمؤشرات المنجز وبمرجعية الدستور فقط، وإن كان ذلك مطلوبا ومشروعا وواجبا على أي حزب سياسي، بقدر ما يكمن في المساهمة الفاعلة في إعادة التوازن إلى العلاقة بين الدولة والمجتمع، وترسيخ قيم التآزر والتضامن وخدمة مصلحة الدولة التي تعود بالنفع على المواطنين، والتقليص من تدخل الفئات المستفيدة بالموقع السياسي، وتسريع تحقيق تراكم الوعي لدى الشعب بحقوقه وواجباته، بما يجعله مساهما في عملية الإصلاح، ورقيبا عليها في الآن نفسه، كل ذلك في استحضار لمختلف المتغيرات التي تعرفها المنطقة، والتقاطعات التي تنشأ بين مصالح القوى الإقليمية والدولية المعنية بسيرورة التقدم الديمقراطي والسياسي في المغرب