لست ممن يعتقدون أن الدولة بالمغرب عاقلة، رصينة و حكيمة، و تعمل بالضرورة لخدمة المواطن، و البحث عن سبل رفاهيته و عيشه الكريم، بل بالعكس، رواسب تفكير كنت و لا أزال أعتقد أنه علمي، لا زالت تعشش في زوايا العقل،تحرضني على اعتبار أن الدولة هي تعبير عن مصالح طبقة مهيمنة، تملك آليات الإنتاج و الإكراه….
تعقل الدولة، و فلتات الحكمة التي تتطاير هنا و هناك، هي نتاج صراع و موازين قوى، بين قوى منتظمة أو غير منتظمة ، في أوساط هذا الشعب المسحوق بفعل متطلبات الحياة و ميكانيزمات القمع و الترهيب و بين القوى المكونة للطبقات المؤسسة للدولة الحاكمة،و هو تعقل تفرضه ضرورة هذا الصراع،و ضرورة غريزة البقاء التي تعتمل في جسم هذه الدولة…

مناسبة هذا التوطيد الموغل في ماركسية ترفض الرحيل بفعل توهج منطقها،هو الارتياح العام،الذي أبدته الكثير من القوى السياسية ،مما سمي بمسودة الدستور الشفهية،التي قدمها المنوني و المعتصم في لقاء جمعهما بالهيئات السياسية و النقابية المكونة للآلية الاستشارية المواكبة للجنة عبد اللطيف المنوني،ارتياح يفرض طرح السؤال الماكر:هل الدولة "هداها" الله و استجابت بهذه الليونة و المرونة لكل المطالب المدبجة في المائة مذكرة التي قدمت لها من طرف كل الفرقاء؟ رسمت الأمازيغية،و أقرت بحرية المعتقد و حافظت على إمارة المؤمنين،و فصلت السلط و عززت مكانة الوزير الأول و نزعت اختصاصات للملك و هيكلة الوطن جهويا و هلم جرا مما تسرب من المسودة الدستورية؟؟ هو ميلاد دولة جديدة من قهقهة التاريخ و هو يسخر من قصورنا المعرفي في تحليل هذا الذي يقع ….

لا أستطيع أن امنع نفسي من سوء الظن،حين يتبدى لي أن الصراع في هذا البلد تفرع لخطوط متوازية،لا تقاطع بينها،و تعمد الكثير من القوى ،خاصة التي أبدت مواقف إيجابية من حركة العشرين من فبراير و مطالبها العشرين ،و على رأسها إقرار ملكية برلمانية و دستور شعبي ديمقراطي،في نفس الوقت الإشادة بمضمون المسودة الدستورية،و قبل ذلك عدم التحفظ على آليات الاشتغال من أجل إقرار هذا الدستور الجديد…

استجابت الدولة،و بالنسبة لي صياغة الدستور كان من طرفها لا مراء في ذلك،للكثير من مطالب الفرقاء السياسيين،المنسجمة منها و المتناقضة بينها،و تغييب الحركة الاحتجاجية عن النقاش الجوهري لهذه الإصلاحات الدستورية،و الاستمرار في الضرب على وثيرة تناقضات مكوناتها،لا بهدف تكسير التحالف الهجين بين قوى موغلة في التياسر و أخرى موغلة في الميتافيزيقا،بل بهدف إعطاء قيمة أكبر لهذا التحالف،و الدفع بهذه القوى لتحويله لممارسة مبدئية في أفق تفجيره بفعل زرع ألغام التناقض العقلاني في مقترحات الدستور المقدم من طرف الدولة،و إلا ماذا يمكن أن تعنيه الحفاظ على إمارة المؤمنين و تحديد الإسلام دينا للدولة بالموازاة مع حرية المعتقد،فالأولى يتحفظ عليها الصف التقدمي و الثانية ينبذها الإسلاميين،ما معنى التأكيد على ترسيم اللغة الأمازيغية في ظل سعار النقاش الذي فتحه القوميين و العروبيين ،منقسمين بين أحزاب يمينية و يسارية و دينية؟

ليس الموقف من الإشارات السالفة الذكر هو المحدد،بقدر ما يهم التأمل في هذا النقاش /السجال الذي أثير داخل المجتمع،و الذي كان هدفا في حد ذاته،تجلى ذلك في الطلب الموجه للمعتصم من أجل تمكين الفرقاء السياسيين من النسخة المكتوبة ،لا للإطلاع بل لفتح النقاش حولها،طلب ظاهره ديمقراطي و عقلاني،لكن باطنه يرمي ليقف المجتمع عند حدود تناقضاته،في غياب آليات حوار ديمقراطي منتج،مما سيضطره ،أي المجتمع،للاستنجاد بالوظيفة التحكيمية للمؤسسة الملكية،مع ما  يمكن أن يترتب عنها من استرجاع الكثير من سلطات،أوهمت الجميع بأنها مستعدة للتنازل عنها….

لعله سيكون من دهاء القوى السياسية ،و الحركة الاحتجاجية الممثلة في العشرين من فبراير،تلقف مشروع الدستور كما هو،في لعبة ترمي الالتفاف حول دهاء الدولة،و العمل على إقراره و الدفع بالتصويت لصالحه في الاستفتاء المرتقب إجراءه،و إرجاء النضالات الموازية لما بعد هذا الإقرار…..فالوطن لا يبنى في شهرين