وإذا كانت كل القوى الحية تصبو بحماس إلى أن تجد ذاتها في هذه الوثيقة المنتظرة، والتي عليها أن تنقل المغرب من زمن المخزن التقليدي إلى عهد الديمقراطية العصرية ودولة القانون، فإن سلوك السلطة في الآونة الأخيرة، بما أظهره من عنف وحشي في قمع التظاهرات، والذي يهدف بوضوح إلى  كسر معنويات الشباب و ثنيهم عن التظاهر السلمي وعن التعبير عن آرائهم، قد يكون مؤشرا سلبيا لما يتمّ إعداده في كواليس السياسة المغربية، كما قد يكون مقدمة لتهيئة الأجواء الملائمة لطرح دستور يراد تمريره كالعادة باستفتاء يعرف الجميع نتائجه مسبقا، بالنظر إلى الطرق والأساليب التي يتمّ بها.

لقد اعتمدت السلطة على مدى عقود تقنية تزكية الدساتير بالإستفتاء، بعد تحديد التوافقات مع الأحزاب الحليفة في إطار سقف تحدده السلطة، وهو ما جعل الحياة السياسية فاقدة لديناميتها بسبب إفراغها من أي محتوى جدّي، حيث أدّت هذه العملية إلى إضعاف الأحزاب بعزلها عن قواعدها، و إلى  اختزال العملية السياسية بين قطبين هما القصر والأحزاب التي لم تعد تمثل فعليا الشعب. ومن مساوئ هذا الأسلوب وآثاره السلبية على الحياة السياسية أنه جعل الإصلاح رهينا بتقديرات السلطة التي تفضل تقنية الجرعات، وتعتبر المجتمع قاصرا ينبغي الإحتفاظ به تحت وصاية السلطة.

فإذا كان الإستفتاء الشعبي في أصله تقنية ديمقراطية أبدعها العالم المتقدم لإضفاء شرعية ديمقراطية على النصوص الدستورية، فإنها في بلاد الديمقراطية الشكلية
تتحول عملية الإستفتاء بدورها إلى مسرحية عبثية لتكريس دستور لا يتوفر على الحدّ الأدنى للدستور الديمقراطي المطلوب، ويتمّ ذلك على الشكل التالي :

ـ القيام بدعاية واسعة تحث الجمهور على التصويت بـ"نعم" ، موحية بشتى الأساليب، واعتمادا على الأعيان المحليين وعلى خدام السلطة من السياسيين والزعماء الموالين للسلطة، إلى أن "نعم" تقال للملك وليس للدستور. وبذلك يتمّ تغييب مضمون الوثيقة المراد الإستفتاء حولها، واستحضار ثقافة الولاء والطاعة والرضى وشعارات الوحدة بين "العرش والشعب"، والتي يتمّ فيها تجنب التعريف بالدستور ما له وما عليه.

ـ اعتماد نسبة الأمية المرتفعة كخزان للأصوات التي تضمن منذ البداية الأغلبية لصالح مخطط السلطة، وهي أغلبية تنضاف إليها نسبة من أتباع الأحزاب الدائرة في فلك السلطة والعائلات المستفيدة واللوبيات الإدارية.

ـ اعتماد أساليب سلطوية سافرة في تنظيم الإستفتاء في البوادي وأعالي الجبال، حيث يتم اعتماد تمثيلية كاريكاتورية للسكان عبر الشيوخ والمقدمين الذين يحضرون وحدهم إلى مكاتب التصويت ليصوتوا نيابة عن سكان القرى والمداشر الذين يقال لهم "لا تزعجوا أنفسكم بالإنتقال إلى مكان التصويت وانصرفوا إلى أشغالكم فنحن سنقوم بالواجب نيابة عنكم"، فـ"نعم للملك" ليست بحاجة إلى اختبار نوايا الناس فيها، فالكلّ مع الملك، وثمة تفويض مطلق للسلطات المحلية بتمثيل السكان في هذا الباب.

نتيجة هذا السلوك تكون معلومة وهي ضمان نسبة تصويت عليا لصالح الدستور المقترح، وباستثناء سنة 1962 التي عرفت مقاطعة كبيرة من السكان في عدد من البوادي نتيجة تأطير الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، فإن الإستفتاءات المتعاقبة قد عرفت في مجملها سلوكات من النوع المشار إليه.

ينتج عما ذكرنا نتيجة منطقية مؤداها أن الدستور الديمقراطي في بلادنا لا يكتسب شرعيته من الإستفتاء عليه، بل من مضمونه الذي ينبغي أن يتوفر على مقومات الدستور الضامن للعدل والمساواة وللحقوق والحريات كافة، وللتداول على السلطة ولمحاسبة الحاكمين ولفصل السلط ولإنهاء استعمال الدين لتوطيد الإستبداد والقهر.

فالمعيار الذي سيُعتمد في تقييم الدستور القادم هو المطالب المعلنة في الشارع، والتي هي الحدّ الأدنى الذي إن تمّ النزول عنه وقعنا في استمرار الإستبداد ودوام الفساد .