هشام أعناجي – كود الرباط//

تعاني الخزينة العامة للمملكة (TGR) من أزمة خانقة تعكس أوجه الخلل العميق في تدبير المالية العمومية بالمغرب. هشاشة إدارية، ضعف التكوين، غياب الوسائل التقنية، وخدمات متردية، ومساطر معقدة بعضها وموروث من العهد القديم، كلها عوامل تجعل هذه المؤسسة واحدة من العوائق الرئيسية أمام الاستثمار، خصوصًا للمقاولات الصغيرة والمتوسطة.

وفي ظل الإحباط واليأس اللذين يعاني منهما موظفو الخزينة عبر التراب الوطني (النزهاء منهم طبعا)، تتزايد البيروقراطية الإدارية، خاصة فيما يتعلق بتدبير الصفقات العمومية، حيث تؤثر هذه الممارسات بشكل مباشر على الفاعلين الاقتصاديين، مما يضع المغرب في موقف محرج أمام التزاماته بتحسين مناخ الأعمال وجذب الاستثمارات.

مرسوم الصفقات العمومية.. بين تقليص ’’التخوفيش” وفتح باب جديد للتلاعب

منذ دخول المرسوم 2.22.431 حيز التنفيذ سنة 2023، والذي فرض شفافية أكبر على الصفقات العمومية عبر إجبارية نشر سندات الطلب (bons de commande ) في البوابة الرقمية للصفقات العمومية، انخفضت مساحة التلاعب والتفويتات المشبوهة التي كانت تمنح امتيازات غير قانونية لبعض الشركات بتواطؤ مع الإدارة.

لكن في المقابل، كشف هذا الإصلاح عن ثغرات جديدة، حيث بدأت بعض الإدارات تلجأ إلى مسطرة “حالة الاستعجال” لاختيار موردين سبق أن تعاملت معهم، مما أعاد فتح المجال أمام ممارسات الإقصاء، حيث يتم استبعاد الشركات الجدية عبر فرض معايير تعجيزية أو طرح صفقات بأسعار متدنية تجعل من المستحيل تنفيذها بالجودة المطلوبة.

اللعبة الجديدة التي يلعبها بعض المسؤولين، وفق مصادر ’’كود”، تتمثل في ’’إغراق السوق” بأسعار منخفضة جدًا، مما يجعل الشركات الفائزة غير قادرة على الالتزام بالصفقة، ليتم إلغاؤها لاحقًا ومنحها لمورد آخر عبر مسطرة تفاوضية، وبطريقة ملتوية لكن قانونية.

مثال بسيط يوضح هذا التلاعب هو ما يحدث في بعض الإدارات، مثل كلية العلوم الإنسانية ابن مسيك، حيث تطرح صفقات دون تحديد دقيق للمواصفات المطلوبة، مما يفتح الباب أمام تأويلات وتقديرات ذاتية تؤثر على تحديد الأسعار وتؤدي إلى إقصاء عدد من المقاولات الجدية.

’’اللائحة السوداء” تختفي وخلل تقني يعرقل المنافسة

وفقًا للقوانين الجاري بها العمل، يجب على الخزينة العامة نشر قائمة “اللائحة السوداء” التي تتضمن أسماء الشركات المحظورة من المشاركة في الصفقات العمومية بسبب خروقات سابقة. لكن هذه اللائحة اختفت فجأة من البوابة الرقمية للصفقات العمومية دون أي تفسير رسمي، مما يفتح المجال أمام شركات سبق أن ارتكبت مخالفات جسيمة للمشاركة مجددًا في الصفقات.

إضافة إلى ذلك، يواجه المقاولون مشكلًا تقنيًا متكررًا في البوابة الإلكترونية، حيث تتعطل المنصة في لحظات حساسة أثناء تلقي العروض، مما يؤدي إلى إقصاء بعض المنافسين بسبب مشاكل تقنية، وهو أمر يثير الكثير من الشكوك حول مدى شفافية هذه العملية.

’’الصفقات الموجهة”.. حين تتحكم الإدارات في الفائزين مسبقًا

التحكم في الفائزين بالصفقات لم يعد يتم فقط عبر تخفيض الأسعار، بل أيضًا عبر ’’الصفقات الموجهة”، حيث يتم فرض شروط تعجيزية لا تتوفر إلا لدى شركات بعينها، مما يحرم المقاولات الأخرى من المنافسة.

مثال على ذلك، بعض الإدارات (منها صفقة سابقة للوكالة الوطنية للموانئ)، تفرض (الإدارات) على كراء السيارات أن يكون لديها أسطول مكون  100 سيارة على الأقل، رغم أن الصفقة لا تتطلب إلا ستة أو عشرة سيارات، مما يعني أن شركات معينة فقط يمكنها المنافسة.

اليوم شركات كراء السيارات الكبرى يمتلكها الأبناك، بمعنى تتوفر على تسهيلات بنكية عكس باقي المتنافسين، وبالتالي السقوط في شبهة تضارب المصالح.

بيروقراطية قاتلة.. خدمة “BARID E-SIGN” نموذجًا

حتى في أبسط الإجراءات المتعلقة بالمشاركة في الصفقات العمومية، تواجه المقاولات عراقيل بيروقراطية تجعل العملية معقدة وغير مجدية.

مثال ذلك خدمة BARID E-SIGN، التي يحتاجها المقاولون لتوقيع الوثائق إلكترونيًا والمشاركة في الصفقات العمومية. فرغم أن بريد المغرب يعمل على تسريع إصدار هذا المفتاح الإلكتروني، إلا أن الخزينة العامة نفسها تعطل العملية، مما يؤدي إلى تأخير غير مبرر يضر بالمقاولات ويحد من فرص مشاركتها في الصفقات العمومية.

هذا التأخير يدفع المقاول صاحب الطلب إلى البحث عن الموظف المسؤول على تلقي الرسائل الإلكترونية لتسوية هذا التأخير في معالجة الملفات والبحث عنها.

كما تطرح هذه المسألة قلة الموارد البشرية المكلفة بمعالجة الطلبات إلكترونياً.

الاختلالات المتعددة داخل الخزينة العامة للمملكة تكشف عن مشكل هيكلي في تدبير المال العام، حيث لا تزال العقلية البيروقراطية تعيق الإصلاحات، فيما تجد المقاولات نفسها أمام تحديات غير منطقية تجعل من الصعب عليها المنافسة العادلة.