حميد زيد – كود ////
كان مقر جريدة التجديد لوحده حكاية تستحق أن تروى. وتظنه للوهلة الأولى حماما “بلديا” لكنه ليس حماما.
وتظنه رياضا لكنه لم يكن رياضا.
وتظنه خانا لكنه لم يكن يستقبل زوارا ومسافرين للنوم فيه.
وتظنه بيتا للسكن. وفيه أسرة. وأولاد. وزوجة. وزوج. لكنه لم يكن بيتا للسكن.
ففي المقر مكاتب. وغرف. ومطبخ. يشرب فيه الزملاء الشاي.
وفيه زليج مغربي.
وفي مقر التجديد سلالم و درابزين. وعندما تصعد إلى أعلى. تجد مكتب مصطفى الخلفي. الذي يستقبلك بابتسامته المعهودة. وبتحليلاته الأنجلوساكسونية لما يقع في المغرب. وفي العالم.
وأن تكون صحافيا محافظا وتشتغل في مقر كهذا فإن ذلك كان يزيدك محافظة.
وتشبثا بالأصل. وبالماضي.
ويجعلك عتيقا. ومتدينا.
لأن هندسة المكان. والزليج الذي يبلغ السقف. يؤثران على خطك التحريري. وعلى نظرتك إلى الحياة. وإلى الوجود. وإلى الحقل السياسي المغربي.
لكن هذا كله لم يعد موجودا للأسف.
فقد اختفى المقر.
ثم اختفت جريدة حركة التوحيد والإصلاح في عز الحاجة إليها.
وبعد ذلك صار مصطفى الخلفي وزيرا في حكومة بنكيران. وتفرقت السبل بالصحافيين الذي كانوا يشتغلون في تلك الجريدة. شبه اليومية.
ومنهم من صار حداثيا.
ومنهم من ثار على الزليج. مفضلا الاشتغال في مقرات عصرية زجاجية. تطل على العالم الخارجي.
ومنهم من صار مفكرا يشار إليه بالبنان.
ومنهم من صار مستشارا.
ومنهم من اعتزل.
إلا أن كل من عاش تلك المرحلة. لا بد أن يتملكه الحنين إليها.
ويتأسف على غياب التجديد.
فقد كانت حافزا لي على الكتابة. وعلى الإبداع. وكنت من قرائها الأوفياء.
وكي لا يراها اليساريون. و محاربو الظلام. ويشكوا في انتمائي. وولائي. فقد كنت أدس التجديد داخل الاتحاد الاشتراكي. والمساء. وأغطي كل هذه المنابر بالقدس. وبأخبار الأدب.
والمؤسف في تجربة التجديد. أنه. ومنذ توقفها عن الصدور. بدأ الإسلام السياسي يتراجع.
كما تراجعت الدعوة.
وتوقفت حملات حجابي عفتي.
وتوقفت الأيام الثقافية.
و توقفت الأسابيع. والأناشيد. والدبكة.
ولم يعد الإسلاميون متحمسين للدفاع عن القيم والأخلاق.
ولا لمحاربة الدعارة.
ولم يعودوا يدعون إلى الحشمة.
ولم يعد أحد منهم يحتج على الأفلام. وعلى العري. و لا على أي شيء.
وبتراجع هذا الخصم المحترم.
اختفينا نحن بدورنا. واختفى اليسار. والحداثيون.
و اختفت الجريدة الأولى. ونيشان.
واختفت النسخة الأولى من الأحداث.
وظهرت نسخ جديدة كثيرة لنا غير أصلية. في الصحافة. وفي السياسة. وفي الشارع. وفي الأحزاب. وفي كل المجالات.
ولم يعد أحد يأخذ أي اختلاف. وأي صراع إيديولوجي. على محمل الجد.
ولم يعد أحد يدافع عن أي شيء.
ولم يعد أحد ضد أي شيء.
أما حين كانت جريدة التجديد تخرج من ذلك المقر. فقد كانت المعارك التي تقع حقيقية.
وكان يخوضها أشخاص مثل محمد يتيم.
قبل أن يتعرض بدوره للقرصنة.
وكان في التجديد حسن السرات الذي كان يرى عقاب الله للبشر في تسونامي.
وفي الفيضانات.
وعندما كانت الطبيعة تغضب في آسيا. كان هذا الشخص يحذر المراكشيين. من غضب الله.
وكان فيها سعد الدين العثماني. وكان لا يتردد في علاج القراء نفسيا وبالمجان. وبعلاج حلال. خال من الليبدو.
ومن أي قتل للأب.
ومن أي زنا محارم ولا أي عقدة.
ومن أي قلب لنظام الطبيعة. ومن أي ادعاء بأن الطفل أبو الرجل.
وحين كنا ننحرف.
وحين كنا نتفرج في فيلم غير نظيف.
وحين كنا نسهر.
يحدث أن نستيقظ في الصباح. ونجد جريدة التجديد. منبهة لها. ومحذرة. مثل أم تسهر على تربية أبنائها.
بينما لم يعد أحد الآن يحذر المغاربة.
ولم يعد أحد يبدي حرصا علينا.
ولم تعد أي جريدة تقول لنا ماذا نشاهد وماذا لا نشاهد.
وماذا نسمع وماذا لا نسمع.
ولذلك فإنه من الطبيعي. بالنظر إلى هذا الغياب. أن ينحرف المغاربة.
وأن يكثر الرقص.
و أن يتم التطبيع مع المعازف.
وأن يهرب الصغار من المغرب في اتجاه سبتة.
وأن ينهزم العدالة والتنمية في أي معركة يخوضها.
حيث لم يؤثر غياب التجديد على الإسلام السياسي
،
وعلى الحركة الدعوية فحسب
بل أيضا على اليسار
وعلى اليمين
وعلى العري
وعلى السياسة
وعلى الصراع
وعلى القيم
ومنذ توقفها عن الصدور لم يعد يحدث أي شيء كما كان يحدث من قبل.
ولم يعد للمحافظة ولا لنقيضها أي معنى
وأتذكر الآن جريدة التجديد بحسرة
وأحنّ إليها
وإلى مقرها
وإلى خط تحريرها النظيف كما لو أن مقالاتها خارجة من حمام.
وإلى مطبخها الداخلي
وإلى زليجها.
وإلى كل من خرج منها إلى الوزارات
وإلى السلطة
وإلى كل الأسماء التي كتبت فيها
ثم اختفت هي الأخرى
كأن شيئا لم يكن.