حسن طارق*//
هل تذكرون الإضراب العام؟
لاشك أنكم قبل قليل من الوقت كنتم تعتبرونه مجرد ذكرى بعيدة جديرة بالتاريخ.
لاشك أنكم قبل قليل من الوقت كنتم تعتبرونه مجرد كلمة من تلك الكلمات التي سقطت بالتقادم من معجم تداولنا العمومي.
لقد كنتم خاطئين إذن!
الإضراب العام حي يرزق، وفوق ذلك يأبى ألا يعرف، فقط، بصيغة الماضي، لقد تسلل إذن إلى لغة الحاضر ليقنعنا بأنه ينتمي أيضا إلى المستقبل!!
ولاشك قد تتساءلون بسذاجة بحثا عن مقارنة مثيرة، عما سيتبع الإضراب القادم من وقائع وأحداث، عندما تتذكرون ذلك الإضراب الديسمبري لعام 1990 الذي يبدو اليوم كنقطة بداية لمسار خطر من الأحداث: ملتمس الرقابة، مذكرة الإصلاح، الكتلة، التناوب المرجأ، الدستور، التناوب التوافقي…
لندع كل ذلك ولنحتفي بقرار الإضراب العام، بما يليق به من نوستالجيا: سنقود المانشيطات الحمراء والسوداء، على ثمانية أعمدة فوق عنوان الجريدة، جريدة الحزب، وفي نفس الجريدة ستعود تلك الزاوية الصغيرة يسار الصفحة الأولى لتذكرنا بالعد العكسي ليوم الإضراب العام، بقي سبعة أيام، بقي ستة أيام… غدا الإضراب العام. اليوم الإضراب العام.
سيكتب منظرو الحزب مقالات مليئة بالأحلام وبالإيديولوجيا والمصطلحات الكبيرة، حول مفصلية الحدث وتاريخيته.
ستظهر صورة الزعيم النقابي بحجم أكبر، صورته وشرارة الغضب تتطاير من نظراته الحادة كأي حامل أمين لهموم الكادحين.
في الملحق الثقافي للجريدة، سنعثر بالصدفة على قصيدة لأحد شعراء الحزب. صديقنا الشاعر من أنصار ما بعد الحداثة، لكن حرارة الحدث أعادته إلى تيار الواقعية الاشتراكية، القصيدة مهداة إلى زعيم النقابة وكل شعراء الطبقة العاملة.
المراسل النقابي، هل تذكرونه بالمناسبة؟ سيكتب كل يوم مقالا في زاوية ثابتة تحت عنوان لماذا الإضراب العام؟
افتتاحيات الجريدة ستدبج مرافعات سياسية دفاعا عن القرار التاريخي، وبيانات المكتب السياسي والكتابات الإقليمية والشبيبة والنساء ستثمن الإضراب العام، وستصفه بالمنعطف الحاسم وباللحظة الدقيقة من حياة الجماهير الشعبية. مناضلو الشبيبة سيوزعون بسخاء بيانات الدعم، القليل منهم قد يعتقل بسبب ذلك، الأمر سيتطلب مكالمة هاتفية قصيرة للكاتب الإقليمي أو رئيس البلدية الحزبي، ليطلق سراحهم بعد ساعتين أو ثلاث. ستملأ المقرات بالمناضلين، وداخلها سيصدح صوت خليفة وأميمة الخليل والشيخ إمام…
ليلة الإضراب العام، ستلعب التلفزة لعبتها المعتادة، ستحاول تضليل الشغيلة، متحدثة عن حوار لم يتم.
ستقترب نقطة الصفر، سينتصب النقابيون أمام المعامل لتنفيذ «les piquets de grève»، الموظفون سيطبقون بدقة مذكرة تقنيات الإضراب، الملتزمون منهم سيعودون إلى مقر النقابة، الدولة ستلجأ إلى البوليس والعسكر لسياقة الحافلات العمومية، ولتأمين بعض الخدمات.
الإجراءات الأمنية المشددة ستصب الكثير من الزيت على نار الجو المتوتر، استفزازات الباطرونا ستخلف بعض المناوشات الطفيفة. وكما لو تعلق الأمر بكرة ثلج، ستنطلق شرارة تظاهرات صغيرة وجزئية وعفوية في أحياء هامشية متباعدة، ستنتشر حولها أخبار سريعة وإشاعات مضخمة ومخاوف متزايدة حول تظاهرات وأحداث في أحياء بعيدة ومدن مجاورة، تم سينفلت الوضع نهائيا، وسيتدخل البوليس والدرك والجيش والقوات المساعدة، وسيلعلع الرصاص الحي وستسقط الجثث على أرصفة الفتنة لتدفن في مقابر الوقاية المدنية أو مزابل البلدية… بعد يوم أو يومين، ستعود المدن إلى سابق هدوئها، وسنعود إلى الاختلاف حول معنى السلم الاجتماعي، وحول من كان سباقا للاستفزاز: النقابيون أم البوليس؟ وحول عدد القتلى والمختفين؟
بعد أسابيع، ستعلن الدولة زيادة بضعة دراهم لرواتب الموظفين، وستعلن المزيد من تقسيم المدن إلى عمالات وولايات ودوائر جديدة. الإضراب العام نفسه الذي سيتحول إلى ندب غائر في وجدان أم ثكلى تعرض ابنها لموت طائش، أو طفل يتيم فقد أباه في زحمة الأحداث، قد يتحول إلى قصيدة جميلة كتلك التي كتبها الأشعري عن البيضاء التي خرجت كاشفة ملامحها الأطلسية، ذات جوان 81، أو إلى نص نثري باذخ كما فعل برادة، حول أحداث 14 دجنبر 1990 بفاس أو إلى أغنية يرددها الطلبة والعمال وهم يغنون مع سعيد المغربي: «اشهد يا حزيران في يومك العشرين…».
يعود الإضراب العام نعم. لكن هل ستعود للشعار الصادح بالكفاح والصمود تلك القدرة على بث تلك الكهرباء السرية وتلك القشعريرة السحرية في الأجساد المتداخلة المناكب، المتشابكة الأيادي والملوحة للسماء بالحق في الخبز والحلم؟
يعود الإضراب العام نعم، لكن، هل سيعود الحزب إلى شعبه؟ والفكرة إلى ألقها؟. وهل سيعود للقضية صدقيتها؟ وللنقابة نبلها؟ وللسياسة شرفها؟ هل سيعود التاريخ؟
*نشر بجريدة الحياة المغربية سنة 2003