وكالات//

أعلن رئيس وزراء ألبانيا إيدي راما، في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك يوم 23 شتنبر 2024، أن بلاده تخطط لإنشاء دولة ذات سيادة للمسلمين البكتاشيين على غرار الفاتيكان.
وأوضح راما أن هذه الدولة، ستقام داخل العاصمة تيرانا، ستصبح أصغر دولة في العالم، متوقعا أن تشكل موطنا روحيا للمسلمين البكتاشيين.

وبحسب تقرير صحيفة “لاكروا” الفرنسية، الذي نشر في 24 شتنبر الماضي، فستُمنح المواطنة في الدولة المستقبلية حصريًا لأعضاء رجال الدين المنتمين للبكتاشية ولموظفيها الإداريين، وسيرأس الحكومة زعيم الطائفة بدعم من مجلس مسؤول عن الإشراف على العمليات الدينية والإدارية.

كما من المقرر أن تشغل الدولة الجديدة نفس الحيز الجغرافي الذي يشغله مركز البكتاشية العالمي الحالي في تيرانا، بمساحة قدرها “حوالي عشرة هكتارات”، وهو ما يمثل حوالي ربع مساحة الفاتيكان.
فيما توقع الكاتب البريطاني هاري سينكلير في تقريره على موقع أورو ويكلي نيوز، فإن الدولة البكتاشية الجديدة ستسمح باستعمال الكحول وستترك للنساء الحرية في ارتداء ما يشأن، وستنتهج نهجا ليبراليا حتى في مجال الإيمان.

ويستعد زعيم البكتاشيين إدموند براهيماي، المعروف باسم بابا مندي (65 عامًا) وهو ضابط سابق في الجيش الألباني، ليصبح رئيسًا للدولة الجديدة، كما يعكف فريق من الخبراء على صياغة تشريع لتحديد الوضع السيادي لهذا الكيان داخل ألبانيا.

ونقل سينكلير عن بابا مندي تفاؤله بشأن الحصول على اعتراف من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية قائلا: “نحن نستحق دولة، فنحن الوحيدون في العالم الذين يقولون الحقيقة عن الإسلام ولا يخلطونه بالسياسة”.

وتحتضن الولايات المتحدة زاوية بكتاشية تم تأسيسها عام 1954 وتقع في ديترويت.

وأفاد تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” أن أراضي “الدولة الإسلامية” المقترحة عبارة عن مجمع سكني منخفض الإيجار في شرق تيرانا يضم المقر الرئيسي للطائفة البكتاشية الذي يحتوي قاعة اجتماعات وصلاة ذات قبة، ومتحفًا يعرض تاريخ الطريقة، وعيادة، وأرشيفًا، ومكاتب إدارية لبابا مندي.

وستحتاج الدولة المزمعة إلى جهاز استخبارات صغير، لكن لن يكون لديها جيش ولا حرس حدود ولا محاكم.

وتعتبر الطريقة البكتاشية بمثابة خلطة دينية تجمع بين التفسير الفضفاض للقرآن واعتناق بعض المعتقدات الصوفية والشيعية، إضافة إلى موروثات من معتقدات تركيا ما قبل الإسلام كالمسيحية وغيرها.
ويرى بعض الدارسين أن البكتاشية أيضا تتشابه مع ما يسمى بالمذهب الغنوصي وهو مجموعة أفكار ومعتقدات تخلط بين اليهودية والمسيحية ظهرت في أواخر القرن الأول الميلادي.

ويتبع أصحاب هذا المذهب -حسب ديفيد روبرتسون في كتابه الغنوصية وتاريخ الأديان- ما يسمونه المعرفة الباطنية الروحية الشخصية ويقدمونها على التعاليم والتقاليد والأوامر الدينية، وهي معرفة بالنسبة لهم محصورة في فئة معينة، ترتقي فوق عامة الناس الذين لا يعرفون إلا ظاهر الأمور.

ويؤسس البكتاشيون ممارساتهم وطقوسهم على تفسيرهم وفهمهم الخاص لنصوص القرآن الكريم الذي يعتقدون أن له مستويين من المعنى: خارجيا (ظاهرا) وداخليا (باطنا)، ويركزون على ما يعتبرونه معناه الباطني.

وجاء في دراسة للباحث بريان ويليامز، نشرتها جامعة ويسكونسن الأمريكية سنة 2001، بعنوان “الصوفيون والبدو والزنادقة تاريخ انتشار المذهب الصوفي الإسلامي في آسيا الوسطى وتركيا”، أن البكتاشية طريقة تمزج بين التصوف والتشيع، متساهلة لدرجة أنها لا تلزم أتباعها بكل واجبات الإسلام، كما أنها منفتحة على الديانات والفلسفات الأخرى لدرجة الاقتباس منها.
وللطائفة البكتاشية طقوس ومراسم وصلوات خاصة لا يشارك فيها إلا من يسمون بالأعضاء الروحانيين أو المحبين.

ويرى الكاتب البريطاني سينكلير أن الطريقة البكتاشية هي الأكثر ليبرالية من بين الطرق الصوفية، حيث تقوم على مبادئ روحانية فضفاضة وتنبذ ما تسميه العقيدة الجامدة.
وتشترك الطريقة البكتاشية مع الحركات الصوفية الأخرى في الحاجة إلى مرشد روحي خاص، وفي تناغم مع المسيحيين يُطلق البكتاشيون على مرشدهم الروحي لقب البابا.
كما تؤمن هذه الطائفة على غرار عدد من الطرق الصوفية الأخرى بما يسمى مفهوم “وحدة الوجود” الذي وضعه محيي الدين ابن عربي، ويعتبره أغلب علماء المسلمين مفهوما باطلا، لأنه لا يفرق بين الخالق والمخلوق.

وفي جانبها الشيعي تعتبر البكتاشية مشبعة أيضًا بمفاهيم شيعية، مثل التقديس المفرط لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، باعتباره المفسر الوحيد للمعنى الباطني للقرآن الكريم والوريث الشرعي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والأحق بالخلافة من بعده.
وحسب ما توصلت إليه دراسة للموقع البحثي الإنجليزي “سارا كوين” عن التصوف في أوروبا الشرقية تم نشرها سنة 2019، فإن البكتاشية تؤمن بما يؤمن به علماء الدين الشيعة من أن عليا هو البوابة الوحيدة للتفسير الروحي للقرآن، في حين يعتبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ناطقا بالرسالة، أي بالقرآن.
وبعبارة أخرى، تتلخص هذه العقيدة في اعتبار محمد صلى الله عليه وسلم الوسيلة التي تجلى بها القرآن في مستواه الظاهر (الحرفي) للبشرية، في حين يجسد علي رضي الله عنه المعرفة الباطنية (الخفية) للقرآن.
وفي هذا السياق، يحتفل البكتاشيون بعيد النوروز الفارسي باعتباره عيد ميلاد الإمام علي، ولديهم إيمان يما يسميه الشيعة الأئمة الاثني عشر، كما أنهم حريصون على تخليد عاشوراء إحياء لذكرى مقتل الحسين رضي الله عنه في كربلاء، ولديهم طقوس خاصة في هذه المناسبة، حيث يصومون ما يسمونه المأتم التذكاري ويمتنعون عن شرب الماء لمدة عشرة أيام متتالية.
ولا يقتصر البكتاشيون على الخلط بين الصوفية والتشيع بل يضيفون تأثرا بديانات أخرى خصوصا المسيحية، فلديهم ما يشبه التثليث عند المسيحيين، لكن ثالوثهم هو الله ومحمد وعلي، ويرون أن “محمدا وعليا كيان موحد واحد”.
ومن طقوسهم المتأثرة بالديانات الأخرى وجبة مقدسة تشبه وجبة العشاء الأخير عند المسيحيين، والاعتراف سنويا بخطاياهم أمام البابا لتغفر ذنوبهم، في ما يشبه صكوك الغفران المسيحية.
ويجب على أعضاء الطريقة البكتاشية عبور مستويات أو مراتب مختلفة أثناء تقدمهم على طول ما يعتبرونه المسار الروحي للوصول إلى الحقيقة، وهذه المراتب هي:
العاشق: ويُطلق على أعضاء المستوى الأول اسم “عشاق” وهم المبتدئون.
المحب: بعد الانخراط في نظام البكتاشية والانجذاب إليه يصبح المرء محبًا.
الدرويش: يطلق على من أصبح متمكنا من طقوس الطريقة البابا، وهو الذي يتولى رئاسة التكية أو الزاوية، والمؤهل لتقديم التوجيه الروحي.
الخليفة بابا: ويلقب بالجد أيضا، ويمثل أعلى سلطة في النظام البكتاشي، ويسمى مقر إقامته بيت القديس، وكان يقع بجانب ضريح مؤسس الطريقة الحاج بكتاش ولي في مدينة هاجيبكتاش في تركيا قبل أن يتم نقله إلى تيرانا عاصمة ألبانيا.
تحمل البكتاشية اسم رجل من خراسان عاش في القرن الـ13 يدعى حاجي بكتاش ولي (1208 – 1270)، ولكن تأسيسها كحركة ووضع أسسها وطقوسها تم في النصف الثاني من القرن الـ15 على يد رجل تركي يدعى بابا باليم.
نشأت الطريقة في منطقة الأناضول خلال عهد الإمبراطورية العثمانية، وتغلغلت في فيلق الإنكشارية إحدى الفرق الرئيسية للجيش العثماني، حيث تشكل ذلك الفيلق من أبناء الأسرى الذين أوكلت تربيتهم إلى بعض شيوخ الطائفة البكتاشية مما مكنها من التأثير القوي في هذا الفيلق الذي سيكون له دور سياسي لاحق كبير.
نمت البكتاشية في منطقة البلقان وما جاورها وانتشرت بشكل خاص بين المسلمين في ألبانيا وبلغاريا ومقدونيا واليونان، لكن انتشارها بين المسلمين البوسنيين كان محدودا.
وبعد الأدوار السياسية التي لعبها فيلق الإنكشارية وتدخلاته في الحكم ومساهمته في الانقلاب على بعض السلاطين العثمانيين، قرر السلطان العثماني محمود الثاني (حكم من 1808 إلى 1839) حل الفيلق، وأتبع ذلك بحظر الطريقة البكتاشية وإغلاق زواياها في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية عام 1826.
وحسب دراسة للموقع البحثي الإنجليزي “سارا كوين” عن التصوف في أوروبا الشرقية تم نشرها سنة 2019، فإن حظر البكتاشية هذا كان على أساس اتهامها بسلوك مناهض للشرع، حيث اعتاد أتباعها إهمال الصلوات وغيرها من الواجبات الدينية.
حاول البكتاشيون بعد رحيل السلطان عبد الحميد استعادة نشاطهم ونجحوا مؤقتا، لكن بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية حظر مصطفى كمال أتاتورك جميع الطرق الصوفية بما فيها البكتاشية وأغلق جميع محافلها في عام 1925، ونتيجة لذلك انتقلت قيادة البكتاشيين إلى ألبانيا وأنشأت مقرها في العاصمة الألبانية تيرانا.
وفي عام 1945 استولى الشيوعيون على السلطة في ألبانيا فتم التضييق على جميع الطوائف الدينية بما في ذلك البكتاشية، وبلغ الأمر ذروته عام 1967 عندما أعلن رئيس البلاد أنور خوجا ألبانيا دولة ملحدة وحظر جميع الممارسات الدينية.
وأرسى أنور خوجة -الذي تولى رئاسة البلاد- دكتاتورية شيوعية اعتبرت الأقسى من نوعها، واتسمت بالقمع الشديد والتنكيل بالمخالفين.
وفي ذروة استبداده أعلن خوجة عام 1967 ألبانيا “أول دولة مُلحدة في العالم”، وأغلق أو هدم كل المؤسسات الدينية ومنع كل نشاط ديني وسجن مئات الأئمة والعلماء المسلمين والمسيحيين وقتل منهم من كانوا يُظهرون مقاومة له ولنظام حكمه.

تنديد بحماس وعلاقة بإسرائيل

في رسالة بتاريخ 7 أكتوبر 2023 نشرت على موقع المركز العالمي للبكتاشية وجّهها رئيس الطائفة إلى إسرائيل عبر سفيرها في ألبانيا، أعرب بابا موندي عن إدانته القوية لما وصفه “بالهجوم الإرهابي” الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على إسرائيل.
وجاء في نص رسالة رئيس البكتاشية “إن مؤسستنا الدينية تقف إلى جانب الشعب الإسرائيلي وتقدم تعازيها القلبية لضحايا الهجمات الإرهابية، أدعيتنا وصلواتنا مع الضحايا وعائلاتهم وكل إسرائيل، وليبارك الله شعب إسرائيل”.
وخلت الرسالة من أي إدانة لما تقوم به إسرائيل من إبادات في حق المسلمين وتدنيس ممنهج لمقدساتهم وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، مما قوبل بالنقد.
ويبدو أن علاقة الطائفة البكتاشية بإسرائيل متجذرة فعلى موقع الطائفة أيضا خبر نشر في 29 أكتوبر 2020 عن لقاء جمع زعيم الطائفة بممثلي جمعيات يهودية أكد على متانة العلاقات بين إسرائيل والطائفة.
وفي مارس 2021 قام الصحافي اليهودي بيني زيفر بزيارة لمقر الطائفة البكتاشية في ألبانيا والتقى زعيمها، ونشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقالا لزيفر، تحدث فيه عن تلك الزيارة وعبر تقديره لتقاليد الحركة وتصوفها وطقوسها واعتبر أنها تشبه طقوس حركة يهودية تسمى طائفة السبتيين الذين وصفهم بأنهم متدينون في المظهر الخارجي فقط، وأنهم يمارسون فيما بينهم أنواع الفجور.
وتحدثت الصحافة الألبانية عن لقاء بابا موندي برئيس إسرائيل إسحق هرتسوغ خلال زيارة قام بها الأخير لألبانيا مؤخرا.
ولعل تلك الصلات ما جعلت وسائل إعلام تركية تثير الشكوك، فقد اعتبر الصحفي في صحيفة “صباح” التركية مليح ألتينوك أن الدولة البكتاشية المزمعة مشروع مرتبط بإسرائيل، وأن هذا المشروع لم يولد بين عشية وضحاها، فالولايات المتحدة وإسرائيل لديها أنشطة نفوذ في البلقان منذ 30 عاما.