تقارير : كونسورتيوم ميريكاني اختار المغرب لتدشين منصة صناعية كبيرة لتجميع الطيارات ديال الشحن
عبد الله بوشطارت ــ باحث في التاريخ – كود//
قصبة الأوداية المعروفة اليوم بمدينة الرباط كموقع تاريخي وفضاء سياحي بديع، تقع في الضفة الجنوبية لمصب نهر بورگراگ، وتطل على البحر وعلى مدينة سلا، وشكل موقعها الجغرافي هذا سبب تأسيسها واستمرار حيوتها في التاريخ المغربي منذ فترات سحيقة. باعتبرها حصنا للدفاع عن المنطقة وعلى مدينة شالة القديمة، وكذلك باعتبارها قصبة عسكرية فيما بعد.
المنطقة التي تقع فيها القصبة كانت تعيش فيها القبائل الامازيغية خاصة مصامدة سهل تامسنا، والتي أسست امبراطورية أمازيغية عظيمة كانت تمتد من نهر سبو إلى وادي النفيس وساحل الصويرة وآسفي قبل أن يتقلص موقعها قبيل ظهور دولة المرابطين الصنهاجية. وهذه الدولة التي عمرت ما يزيد عن 4 قرون عرفت بالدولة البورغواطية والتي كانت تسيطر على مجموع المناطق السهلية الهبطية الخصبة والغنية كسهل الغرب الذي كان يسمى سهل أزاغار وسهل تامسنا ودكالة وعبدة.
وفي صراع المرابطين مع البورغواطيون تم تدمير العديد من المدن الساحلية والداخلية والمواقع الحصينة وغيرها التي كانت في تامسنا منها أنفا، وتافدالت ( المحمدية) ومازيغن (الجديدة) وأزمور وأسفي، ومنها موقع المعروف حاليا بقصبة الأودية. هذا الموقع لا نعرف عليه المعلومات التاريخية السابقة لعصر المرابطين في القرن 11 م، فقد وصلتنا بعض المعلومات التاريخية القليلة حول ما بناه الملك الأمازيغي يوسف بن تاشفين توفي 1106 فيما يسمى حاليا بقصبة الأوداية، والتي كانت تسمى “قصر بني تارگا”. وتارگا هي قبيلة أمازيغية قديمة كانت تعيش في الصحراء، وربما يمكن أن تكون تسمية لقبيلة محلية لأن تارگا تعني “ساقية المياه” أو يمكن أن تكون التسمية راجعة إلى “تارگا” التي كان جيوشها يرافقون الملك يوسف بن تاشفين في غزواته وتوسعاته في تامسنا وشمال المغرب والأندلس، وذلك بعد تأسيسه لمدينة مراكش 1062. واستمر فيها البناء إلى عهد الملك تاشفين بن علي الصنهاجي حيث تم العثور مؤخرا على بقايا أثرية تعود إلى عصره أثناء انجاز مشروع النفق تحت الأرضي بالأوداية. وشيد المرابطون قصر “بني تارگا” لصد هجومات البورغواطيون وشن غارات عليهم.
وتعرضت القصبة والقصر لهجوم موحدي من طرف الملك/ السلطان “عبدالمومن الگومي”( توفي 1163م) الذي قام ببناء القصبة من جديد وفق طرازه وسماها قصبة المهدية نسبة إلى مؤسس الإمبراطورية الأمازيغية الموحدية “المهدي بن تومرت”. وجاء حفيده السلطان يعقوب المنصور الذهبي وقام بتوسيع القصبة وإعادة بناءها وتسويرها وبنى مدينة بجانبها. وكان يعقوب المنصور وخلفه عبدالمومن وحتى المرابطون يستعملون هذه القصبة كمنطقة عبور واستراحة لجيوشهم بعد المسير من عاصمة ملكهم مراكش، وبما أنها تقع في منطقة وسط، تستعيد فيها الجيوش والعساكر والخيول راحتها قبل اللحاق بالاندلس. وقد ذكرت المصادر التاريخية أن يعقوب المنصور الذهبي جلب الماء إلى القصبة والرباط من عين ماء تسمى عين “غبولة” وأغبالو بالامازيغية تعني “ينبوع الماء”.
بعد الموحدون تراجع دور القصبة وحضورها في التاريخ، فقد همشها المرينيون الذين حولوا أنظارهم إلى مدينة شالة المجاورة للرباط. واسترجعت القصبة التي كانت تسمى المهدية دورها التاريخي بعد هروب الموريسكيين من الاندلس واتخذوها ملجأ لهم، بعد أن كانت شبه فارغة من السكان وحاولوا تأسيس إمارة مستقلة بها تعيش على القرصنة.
وتمكن العلويون من الدخول إلى القصبة وتوسيعها وإعادة اعمارها من جديد واضافة بعض المباني خاصة في الجزء السفلي منها، وتغير اسم القصبة وحملت اسما جديدا وهو قصبة الأوداية نسبة إلى قبائل لوداية التي استقدمها السلطان “عبدالرحمان بن هشام” من أحواز مراكش، لتتولى حراسة القصبة واتخذها قائدها مسكنا له.
ومن تم فإن هذه القصة شهدت على استمرارية تاريخ المنطقة وتطورها الحضاري والاجتماعي والسياسي، منذ أن كانت مرفأ للبورغواطيين وقصر تارگا للمرابطين ثم قصبة المهدية وملجأ للموريسكيين والقراصنة وصولا إلى قصر الأوداية حاليا. وبالتالي فإنها تعد موقعا تاريخيا يشهد على تعدد الحضارة المغربية وعن التاريخ المشترك للمغرب والمغاربة.
وأمام ما تعرفه حاليا القصبة من نزاعات ومن فوضى في التعمير عن طريق بناء بعض المساكن بالاسمنت والحديد وإدخال بعض الاليات والتجهيزات الحديثة التي تسيء وتشوه المنظر المرفولوجي للقصبة باعتبارها فضاء تاريخيا وحضاريا وثقافيا له مميزات خاصة، فإن على الدولة أن تعيد النظر بشكل شمولي إلى هذا الفضاء، وأن تقوم بسن تشريعات جريئة تقر صراحة بنهاية السكن الخاص في مثل هذه الفضاءات التاريخية التي تعتبر فضاءات الحضارة المشتركة والتاريخ المشترك لجميع المغاربة، باعتبارها صنفت ضمن التراث العالمي. فلا يعقل أن يتم السكن في مثل هذه القصبات التاريخية والحديث عن العقارات الخاصة والاملاك الخاصة، لأنه عادة ما يتم شراء هذه الأملاك من طرف وزراء سابقين وشخصيات نافذة…
فعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في إعادة صياغة رؤية جديدة لقصبة الأوداية وجعلها فضاءً مشتركا للذاكرة والحضارة المغربية يساهم في التنمية الثقافية والسياحية لمدينة الرباط، عن طريق البحث عن حلول كمينة شاملة وبنيوية لإخلاءها من المساكن الخاصة والبحث عن بديل حقيقي للسكان على أساس أن تكون القصبة مهيأة لتكون مشروعا ثقافيا وسياحيا مندمجا.